د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
استكمالاً لما تحدثنا عنه في ترسيخ الانتماء الوطني، ومن هذا المنطلق يأتي التأصيل الشرعي، لفقه الانتماء والمواطنة
ضمن أقوال كثيرة في دلالة هذه المحبة، وأنها مرتبطة بالدين.. وفق ما سوف يدل عليه، ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شوّقه إلى مكة، بعد أن أخرجه القرشيون من بلده، عندما قال: «والله إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أنّ قومي أخرجوني منك ما خرجت» وما سنراه من دلائل أخرى .
وهذا أمر يلتصق بطبيعة الإنسان، فالإنسان يحب وطنه بطبعه، فالشعراء مثلاً يتوقون محبّة وولاء لبلادهم، ويتشوفون إلى تقبيل ترابها، كما ورد في أشعار المجنون، في تغزّله بليلاه:
وقفت على الديار ديار ليلى
أقبـّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي
ولكن حبّ من سكن الدّيارا
وقول الآخر :
ولي وطن آليت ألاّ أبيعه
وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا
وهذا باب واسع، قد طُرِق في جميع الأمم، قديماً وحديثاً، حتى لدى بني إسرائيل، الذين قد أخبرنا الله عن بعض شأنهم، فقال عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا [البقرة، الآية 46]. فصار قتالهم حباً لأوطانهم مربوطاً بالجهاد في سبيل الله، وما فيه من الأجر، وهذا يعتبر في عرف بني إسرائيل محبّة شرعية، طلبوا من أجلها القتال في سبيل الله.
وجملة: حبّ الوطن من الإيمان.. كلمة مأثورة يعتقدها بعض الناس حديثاً، وليست كذلك، إذ المهتمون بالحديث سنداً ومتناً، وجرحاً وتعديلاً ينفون كونها حديثاً، وممن قال بأنها موضوع الصاغاني كما نقله عنه العجلوني في كشف الخفاء، وإن كان الصاغاني قد قال: إن معناها صحيح، فقد تعجب القاري في ذلك قائلاً: «إذ لا تلازم بين حب الوطن وبين الإيمان» مستدلاً بأنّ المقصودين بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ الآية [النساء: 66]، ليسوا مؤمنين مع أنّ الآية دلت على حبهم لأوطانهم، لكن انتصر له بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان.
واستظهر القاري أن الحديث يحمل على:
على أن المراد بالوطن في الحديث على افتراض صحته: الجنة، فإنها المسكن الأول لأبينا آدم على خلاف فيه أنه خلق فيها أو أدخل بعدما تكمل وأتم.
أو المراد به مكة، فإنها أم القرى وقبلة العالم.
أو الرجوع إلى الله تعالى على طريقة الصوفية، فإنه المبدأ والمعاد كما يشير إليه قوله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم: 42].
أو المراد به الوطن المتعارف، ولكن بشرط أن يكون سبب حبه صلة أرحامه، أو إحسانه إلى أهل بلده من فقرائه وأيتامه.
ثم عند التحقيق يتبين أنه لا يلزم من كون الشيء علامة لشيء آخر اختصاصه به مطلقًا، بل يكفي أن يكون مختصاً به غالبًا، ألا ترى إلى حديث: «حسن العهد من الإيمان» و»حب العرب من الإيمان»، هذا مع أنهما يوجدان في أهل الكفران.
ومما يدل لكون المراد به مكة ما روى ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85] قال: إلى مكة انتهى. وللخطابي في غريب الحديث عن الزهري قال: قدم أُصَيْلٌ - بالتصغير - الغفاري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة: كيف تركت مكة؟ قال: اخضرَّت جنباتها، وابيضَّت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها ... الحديث، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبك يا أصيل لا تحزني»، وفي رواية: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ويهًا يا أصيل! تدع القلوب تقر».. ينظر: (كشف الخفاء 1: 345، 346) .
وفي المعنى المشار إليها آنفاً يقول ابن القيم:
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها
منازلُنا الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبيُ العدوِّ فهل نُرى
نعودُ إلى أوطانِنا ونُسلَّمُ
فهو هنا يعتبر الجنة وطننا الأول، وأننا أخرجنا من أوطاننا الأولى بمكر إبليس الذي سعى لإخراج أبينا آدم وأمنا حواء من الجنة، فابن القيم هنا يتشوق إلى الوطن الأول وهو الجنة، ويتمنى الرجوع إليه، ويتساءل ما إذا كنا سننجح في العودة إلى الأوطان، ونضمن السلامة.
وفي الحكم على الحديث بالوضع يقول الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة تحت رقم 36: حب الوطن من الإيمان: موضوع كما قال الصّاغاني ص7 وغيره، ومعناه غير مستقيم، إذ إن حب الوطن كحبّ النفس والمال ونحوه، وكل ذلك غريزيّ في الإنسان، لا يمدح بحبه، ولا هو من لوازم الإيمان، ألا ترى أن الناس كلّهم مشتركون في هذا الحبّ، لا فرق في ذلك بين مؤمنهم وكافرهم.[ السلسلة الضعيفة 1: 55].
فإذا أدركنا من ذلك: أنّ هذا الأثر موضوع، ولا يصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّ الديار بأرضها وشجرها جماد، لا تحسّ بهذه المحبة إنْ وجدت، ولا يتميز عند الإنسان شجر عن شجر، ولا تربة وحجارة عن تربة وحجارة إلا بقدر المنفعة، وإنما الذي يعلق بذهن الإنسان في الديار والأوطان، ما يتعلق بذكرياته وأنسه؛ لأنّ المحبة مقترنة بما يصاحبها من أمور سنحت مع ذكريات النفس، وتعلّقت بالقلب، وبنقيضها البغض والكراهية، إذا كان قد مرّ بالإنسان في موطن من الأوطان، ومرتع من المراتع، ما يكدر صفو العيش، أو ينغض البلهنية في الاستقرار، من أعمال وتصرفات تؤثر بالإنسان، في نفسه أو ماله، أو في مشكلات مع أحد أفراد أسرته، أو مجتمعه فإنّ الأول: يألف الديار، ويحسن إليها ليرودها بين حين وحين، والثاني: ينفر منها ويتحاشى حتى من ذكر اسمها أو اسم من يسكنها، وقد يتجاهل حتى أقاربه، سواء كان مؤمناً، أو كافراً، فالأرض بتربتها، وشجرها لم تسئ إليه، ولم تحسن إليه؛ لأنها جماد، وإنما المسيء أو المحسن من يسكن هذه الديار.
كما يقول الشاعر :
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
والرسول صلى الله عليه وسلم، لما هاجر من مكة، قال يودّعها: لولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
فالبشر في الأوطان هم الذين ينطبع بهم وبأعمالهم: في النفوس حُباً، أو يؤثـّرون بغضاً، حيث لم نسمع أنّ إنساناً نفر من بلد؛ لأنّ حجراً فيها ضربه، أو بهيمة نطحته، أو رفسته، أو نخلة سقط منها قريب له، فأعاقته، أو قتلته، ولا نقيض ذلك في دوافع الحب أو الكره، خذ نموذج هذا من المجنون الذي كان يتوجّد على دياره، ومراتع صباه، ولما مرّ بها صار يقبّل جدرانها وتربتها، وقد علل هذا بأنه ليس حباً في التربة، ولا أنساً بالديار، ولكن لأنها تذكر بها ليلاه، التي كانت تسكن هذه الديار، فكان الحبّ لمن سكنها لا لها، حيث يقول: كما مرّ:
مررت على الديار ديار ليلى
أقبّـل ذا الجـدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي
ولكن حـب من سكن الديارا
ويقول ابن الرومي ضمن قصيدة طويلة عن حب الديار:
وحبَّبَ أوطانَ الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكرت أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنُّوا لذلكا
وهذا تعبير صادق عن أن حبّ الديار من حب أهلها، والإنس بهم.
ولذا فإن ما يتعلّق بالوطن من الأعمال مرتبط بالالتزام بالمحبة، والولاء مع ولاة الأمر، الذين بهم يجتمع الشمل، وتتحد الكلمة، وتُحمْي الأوطان، ومنطلق ذلك الناحية الشرعية؛ لأنه جاء في الحديث: (من مات وليس في يده بيعة لولي الأمر، مات ميتة جاهلية).
قال بعض الصحابة: عند بداية الفتن: أطيعوهم ما أطاعوا الله فيكم، وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة فيكم، واسألوا الله الذي لكم، وما ذلك إلاّ أن المجتمع الإسلامي لا يستقيم إلاّ بولي أمر ويجب طاعته ومحبّته.
فأخذ الصحابة هذه العلائم؛ لما وراءها من مصالح في الأمة والمجتمع، وأداء لحق الله وحقّ رسوله، في أداء حق الوطن تأصيلاً شرعياً؛ لأنّ الله يأمر بالسمع والطاعة الشرعية لأوامر ولاة الأمور، الذين يدفع الله بهم الشرور، وتأتي المصالح لحث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله الكريم في أهمية الانقياد والسمع والطاعة، والتنفيذ لأوامر الولاية، في مثل هذا النص: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطيع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني) رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة .
وما ذلك إلاّ من أهمية الطاعة التي هي رمز المحبة لولي الأمر وطاعته، ولاء وبراءة من غيره، في أمر البلاد وقيادتها..
والله الموفق ...