د. حمزة السالم
لا تثق باستشارة أو نصيحة مالية من أي مستشار اقتصادي أو مالي يزيد عمره عن الثلاثين عاماً». هذه الصيحة التي انتشرت في الأوساط الأمريكية في الستينات والتي بدأت تتلاشى تدريجياً حتى أصبح المستثمر اليوم لا يسأل عن أداء المستشار المالي بل عن عمره، فإن كان أقل من الخمسين تركه وبحث عن غيره. بنحو هذا افتتح مقال في جريدة وول ستريت موضوعاً يناقش فيه السن الذهبية للعقلية المالية والاقتصادية. وفي المقال نقولات لدراسات علمية وشواهد ومواقف سأقتبس بعض شواهدها في مقالي هنا, ثم أدلو بدلوي.
ففي دراسة بعنوان «ما هو السن التي ينضج فيها العقل في مقدرته على التسبيب». (أي على إدارك الأسباب الصحيحة للأحداث). خلصت الدراسة بأن الأشخاص الذين تدور أعمارهم حول سن الثالثة والخمسين، كانوا هم الأقل على الإطلاق في ارتكاب قرارات مالية واقتصادية خاطئة.
وفي نتائج أخرى اعتمدت على بحوث علمية عميقة ودراسات ميدانية، قال أستاذ الاقتصاد في هارفرد، ليبوسن، إن سن ما بين الثالثة والأربعين والثلاثة والستين هي بحق السن الذهبية للإدراك والفهم العميق. والدراسة وإن كانت تدافع وتناصر الموقف الذي يطالب بوضع سياسات حكومية تحمي كبار السن من القرارت المالية الخاطئة المكلفة. إلا أن الدراسة وبناء على بحوث علمية موثقة، أكدت أن منتصف العمر هي السن الذهبية لمقدرة الإدراك واتخاذ القرارت. وذلك ليس في القرارت المالية والاقتصادية بل حتى المهارات الاجتماعية فإنها تصل ذروتها في منتصف العمر. وصحيح أن المقدرة العقلية على الحفظ واستيعاب زخم كميات المعلومات، تصل قمتها في العشرينات، إلا أن صهرها وقولبتها لا تتحقق إلا بالخبرات والمعارف المتراكبة. ثم استشهد فقال: فقط أنظر لمن كانت أعمارهم في العشرينات في نهاية طفرة الدوت، عندما كانوا مندفعين في القرارت الاستثمارية، ويقولون «لا هذه المرة تختلف». فانظر أين انتهوا لما انفجرت الفقاعة، بالتأكيد ليس في جانب السيد بفت.
-«لا يوجد مكان في السوق لصغار السن»، هكذا عبر السبعيني قرانثام الذي اعتزل فأصبح رئيس مجلس إدارة شركة مالية تدير استثماراً يبلغ 118 ملياراً من أموال المستثمرين. ثم استشهد قائلاً: سقوط السوق المالية في السبعينات كان درساً مؤلماً ولكنه كان درساً قوياً مثمراً، حصدنا ثمرته في أزمة 2007-2008.
وأختم الاقتباس باقتباس الخلاصة وهي «العمر يطعينا القدرة على تأطير الأمور في إطارها، والقدرة على القياس المنضبط الصحيح».
وما أثبتته الدراسات من عموميات في أثر اختلاف العمر على مراحل تطور العقل الفكري للإنسان, يلمسه كل عاقل في نفسه وفي من حوله. ففي الصغر يكون بالطبيعة أكثر تقبلاً للتوجيه وأعلى كفاءة وأكثر جلداً على معالجة كم ضخم من المعلومات وأصبر على القيام بالتحصيل وبإنجاز كثير من المهمات الصغيرة. فإذا ما تقدم في العمر قل صبره على التفاصيل وثقلت نفسه لقبول التوجيهات وأصبح أكثر قدرة على رؤية الأشياء في إطارها الصحيح وأكثر إداركاً للأسباب ونتائجها، وأعمق فهماً لمعاني الأقوال ودلالاتها، وأبعد نظراً وأصح توقعاً. ثم يبدأ بعد ذلك في فقدان ذلك تدريجياً إلا أنه يبقى متمسكاً بحكمته التي عاش عليها فلا يعود يقدر على رؤية أي أمر إلا من خلال منظورها.
وأما ما أثبتته الدراسات في جانب العقلية الاقتصادية المالية، فغير منطبق عندنا في غالبه. فوضع المهنة عندنا يغلب عليه عدم وجود شريحة متوسط العمر. فالسوق الاقتصادية في العقود السابقة لم تنتج لنا أي خبرة ولم يكن فيها دوافع لتمحيص العقول الاقتصادية واختبارها. فالقطاع الخاص قام غالبه في غفلة البترول، وغالب ملاكه اعتمدوا سياسية مطلقة غير مشروطة بتسليم الأمور للأجنبي لإدارة أموالهم وشركاتهم، وقاموا هم بدور التمثيل الرسمي والوقوف أمام الكاميرات والمشاركة في اللجان الحكومية ليصبحوا بصمجية أو معرقلة أو كوسائل تصفية حسابات أو وسائط لتبادل المصالح والثناء والتوصيات. وأما القطاع العام، فهو القطاع العام وقد كان الاعتماد فيه في الطفرة الأولى على الأجنبي والاهتمام بالواسطات واكتساب الجمايل على حساب الدولة. ثم دخل في فترة سكون انكسار أسعار النفط، فخلد لذلك السكون ينتظر اليقظة.
فغالب الاقتصاديين والماليين والإداريين خلال تلك العقود الثلاثة سواء من عمل منهم في بنك أو شركة أو قطاع عام أو شارك في لجان أو من درس في الجامعات، لم يمر في الحقيقة بالتطور الطبيعي للفكر العقلي في الجانب التخصصي الذي تتحدث عنه الدراسات الأمريكية. فأما من عمل منهم في القطاع الخاص، فما كان يعمل في الاقتصاد والمال حقيقة بل قد كان ممارسته وعمله مركزاً على تطوير مهارته الاجتماعية في توسعة خاطر المُلاك الأثرياء للمحافظة على البقاء أو أملاً في الثراء. وأما من عمل في القطاع العام فقد خلد للنوم في منصبه، وبذل جهده باقي يومه «يلقط رزقه» مع الشريطية والدلالين. وأما دكاترة الجامعات فقد جاءوا وهم يعتقدون أنهم بشهادة الدكتوراة قد أصبحوا أباطرة الاقتصاد فتكابرت أنفسهم عن التحصيل والغرس. وما الدكتوراة إلا تربة صالحة للحرث والزرع، لم تنبت بعد، ولا تنبت إلا بجهد عسير، فإن أهملت تدهورت حتى أصبحت أرضاً قاحلة قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ ولا يرجى منها أمل. فأهملوا فأُحبطوا فأصبحوا يمارسون سلوك المُحبطين الطبيعي في المجتمع.
فالأمل في المهنة الاقتصادية معقود على جيل الشباب القادم، على أن يعتبر فيدرك أولاً مقدرته العقلية الطبييعة، ويدرك وضع دراسته الجامعية فلا يركن لها، ولا لعلوم من يجده أمامه في السوق ولا يبهره جرأتهم وادعاءتهم فيتخدر عقله أو تثبط همته. بل يعود لبناء تحصيله العملي ولا يسلمن بناء خبرته لمن قبله، فليسأل إن لم يفهم ولا يقبل إجابة ما لم تكن منطقية وليبحث عن أجابتها بنفسها. فبذلك يبني خبرة استقلالية بنفسه بعيداً عن جيل اقتصادي العقود السابقة، وليصبر على مجاملتهم وتوسعة خاطرهم، فوالله ليحمدن هذا بعد حين، وليستلذ بممارستها بعد ذلك حياته، فما أجمل من ألم الإدارك والاستقلالية المعرفية.