المؤذن العابد، والمعمر القانت، أبو عبدالمحسن، عثمان بن عبدالمحسن بن حسن بن عبدالله آل عولة مؤذن جامع حي اليرموك، كانت ولادته سنة 1336هـ، ووفاته ليلة الثلاثاء 13-9-143هـ بلغ عمره مائة سنة، عاشها بمختلف صروفها وتقلبات أحوالها: فقراً وغنىً، مرضاً وصحة حامداً شاكراً مولاه، فطالما سمعته يردد: (الحمد الله على خير أعطاناه، وشر وقناه، نعم وعواف من الرب الكريم) منّ الله عليه بثبات عقله فلم ينكر منه شيئاً حتى وفاته، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن بسر -رضي الله عنه- أنه سئل أي الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من طال عمره وحسن عمله). وهذا لطف خفي من المولى جل وعلا به، من أسبابه ملازمة هذه الشعيرة العظيمة لزوماً تاماً، والقيام بحقها نحواً من أربعين سنة، حتى صار هذا الأمر هو حياته، وأنسه، وأي عمل أحسن من هذا؟.. وقد قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.. قالت عائشة -رضي الله عنها-: (أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين). وفي الصحيح من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يسمع صوته -أي المؤذن- شجر ولا مدر ولا حجر ولاجن ولا إنس إلا شهد له).
وقد رزقه الله صوتاً ندياً إذا نادى به آنس به أهل حيه، بل عامة أهل البلد، وأضفى على الجميع طمأنينة لايزالون يتذكرون أثرها ولذتها، خاصة إذا نادى بأذان الأول لصلاة الفجر والذي كان محافظاً وحريصاً عليه حتى في الليالي الشاتية -رفع الله منزلته وآنس وحشته-.. ولم يعهد من يحافظ عليه طيلة الثلاثين السنة الماضية إلا هو وابن عمه أبو محمد عبدالكريم بن محمد العولة -متعه الله بصحة والعافية- ولم يزل على هذه الحالة المستقيمة من المواظبة والحرص على القيام بحقوق هذه الشعيرة العظيمة حتى شهر جمادى الآخرة من عام 1434هـ حيث توقف الشيخ عن الأذان بعد أن ضعف جسمه ورق عظمه فلم يعد يقوى مع أن غاية مناه أن لا يزال ينادي بالأذان حتى قبيل وفاته.. فإني لما زرته في 28-8-1436هـ قبل وفاته بنصف شهر وتذاكرنا في مسجده والفراغ من تجديد بنائه -يعرف الآن بجامع الشيخ عبدالعزيز بن عبد الرحمن الربيعة- قلت له مدخلاً السرور على قلبه: الجماعة يتمنون أن تؤذن فيه حال افتتاحه.. فقال متمنياً: (أحلا لاه) أي أن ذلك أحلى شيء عندي، فالأذان كما أسلفت هو حياته وجنته وسلوته لا حرمه الله أجر نيته ومنيته وبوأه مولاه المنزلة التي يغبطه عليها الأولون والآخرون يوم القيامة.. وكان -رحمه الله- ملازماً لنوافل العبادة من صلاة وصيام وعمرة وصدقة حريص على ذلك إلى آخر سني عمره.. قال عنه صديقه الشيخ ناصر بن أحمد المحرج: (أخي ورفيق دربي الشيخ عثمان بن عبدالمحسن العولة عرفت فيه المروءة والوفاء والإخلاص للصحبة وحب الخير والتقى). وكان ملما بأحوال العباد والبلاد مستحضراً للوقائع والأحداث، معظماً لولاة الأمر ما جلست عنده مجلساً إلا سمعته يدعو لهم: بالهداية والصلاح ووحدة الكلمة، وطول العمر على طاعته، وأن يكفيهم الله شر أعدائهم، والمتربصين بهذه البلاد ومع كونه أدرك هذا العمر الطويل إلا أنه كان موقنا بدنو أجله ورحيله في كل لحظة وكأنه بذلك يعزينا، فطالما سمعته يردد: (أنا مقف اليوم أو غداً، أنا شمس على طرف عسيب). وكان من دعائه في آخر أيامه: (يا الله الخاتمة الحسنة) يكررها وأحسب أن الله الكريم المتفضل استجاب له فختم له بها. رحم الله أبا عبدالمحسن وجزاه عن الجميع خير الجزاء.
د. فهد بن عبدالله المزعل - جامعة طيبة