في أكثر من زيارة لباريس، مع أكثر من مسؤول كبير، في فترات متفاوتة، وأزمنة مختلفة، وحيثما كانت العلاقات الثنائية في مرحلة زمنية مهيأة إلى إجراء عملية تنشيط وتجديد لها، وإلى الحاجة إلى منافذ أخرى لتعميقها وتقويتها، في هكذا أجواء كنت أرى بين عام وآخر في هذه الزيارة أو تلك ما لم أره في سابقاتها، أي أننا في كل زيارة ومع كل مسؤول كبير نكون أمام جديد جدّ في العلاقات السعودية الفرنسية، حاملاً معه كل ما يبهجنا، بما يجعلنا دائماً على ثقة بأنّ هذه الدولة تعرف بخياراتها وقراراتها وتوجيهاتها كيف تحمي هذا الوطن من أي تقلبات سياسية وأمنية واقتصادية.
* * *
في ظاهرة كهذه، ومع تواصل العمل بهذه الروح الوثابة، وبتلك السياسة الحازمة، لن نكون في وضع من يضع يده على قلبه خوفاً من المستقبل، أو بانتظار مشوب بالقلق لما هو آت، فالمملكة بقياداتها تعرف مفاتيح حماية مصالحها وتمسك بها، بل ولا تسمح بأي تفريط يقودها إلى واقع يكرس الإضرار بأمنها، مهما كان الثمن لذلك غالياً، وما هذه الزيارة إلى باريس التي قام بها ولي ولي العهد الأسبوع الماضي، وتوصل من خلالها إلى حزمة من الاتفاقيات والتفاهمات مع الأصدقاء الفرنسيين، إلا أحد المنافذ التي تعزز بها المملكة مشوارها في هذا الطريق الطويل.
* * *
زيارة الأمير محمد بن سلمان، تأتي امتداداً لزيارات ملوك وأمراء سبقوه إلى قصر الإليزيه، وفي كل زيارة من هذه الزيارات كانت هناك نتائج واتفاقيات ورؤى مشتركة، لتأتي هذه الزيارة فتجدد الوهج والحيوية والتفعيل والتفاعل لكل ما سبق التفاهم أو الاتفاق عليه، ولتضيف له مجموعة من الاتفاقيات الجديدة المهمة التي أعلن عنها الأمير محمد في ختام زيارته لباريس، ومن المهم أن نعرف أن جميع الاتفاقيات التي وقع عليها الجانبان هي اتفاقيات استثمارية تقريباً، أي أن عوائدها الاستثمارية ستكون لصالح الرياض وباريس، وهو ما يعني الاتفاق على بناء شراكة حقيقية ومفيدة بامتياز بين الدولتين وعلى قدم المساواة، وهذا بالتأكيد سيعزز استمرار وديمومية هذا النوع من التعاون، وبالتالي سنتمكن وأصدقاؤنا الفرنسيون من التوسع باتجاه بناء الثقة والانفتاح على المستقبل بأكثر مما هو عليه الوضع الآن.
* * *
وبعملية حسابية دون الدخول بأي تفاصيل، فإن الاستثمار على هذا النحو حين يكون بين دولتين لدى كل منهما ما تتميز به في مجال القوة الاقتصادية أو المالية أو الصناعية، مع ما يضيفه تمتع الدولتين بالاستقرار، والرغبة المشتركة في زيادة مجالات التعاون، وتوافر عامل الثقة، ومناخ التكامل المتاح بينهما، وحاجة كل دولة إلى ما تتميز به الدولة الأخرى، سوف يجعل من هذه الزيارة الأميرية ومن الاتفاقيات السعودية - الفرنسية التي تم التوصل إليها، فرصة سانحة نحو مستقبل اقتصادي وصناعي وأمني ومعرفي واعد، يمكّن المملكة تحديداً من استثمار ذلك في إيجاد نقلة نوعية في جميع المجالات التي تم التوصل مع الجانب الفرنسي إلى توافق واتفاق عليها.
* * *
المهم في زيارة الأمير محمد بن سلمان لفرنسا، وقبلها إلى روسيا، وربما لاحقاً إلى دول أخرى، أن الملفات التي يحملها ويعود بتوافق عليها، هي في حدود احتياجات المملكة، وضمن إطار ما يدخل في مصالحها، ويلبي احتياجاتها، ويغطي النقص في أي مجال لديها، وهو ما يفسر التوجه إلى روسيا ثم إلى فرنسا ولاحقاً ربما إلى غيرها من الدول الصناعية، ضمن سياسة تنويع المصادر، وعدم احتكارها واقتصارها على دولة أو دولتين، وهو ما يمكن فهمه وقراءته من زيارات الأمير محمد بن سلمان التي وجّه بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.