د.عبد الله الصالح العثيمين
إن النقد بجميع صوره وأشكاله تبغضه النفس البشرية، ولا تحبه حتى لو كان مبنياً على حسن النية، بما في ذلك النقد الموضوعي البناء الذي يهدف إلى التحسين والتطوير للوصول إلى الأفضل؛ لأن النقد يقرص الشخص الموجَّه إليه ويلسعه، ويعتبره أكثر الناس انتقاصاً لهم. وجميع أنواع البشر على اختلافهم
يتألمون عندما ينتقدهم الآخرون، أو يصفونهم بأنهم على خطأ، أو بعيدون عن الصواب، أو أن آراءهم لا تضيف جديداً، أو أن أعمالهم لا تنجز شيئاً جديداً.. والحقيقة المرّة أن النقد مؤلم في أغلب الأحيان، مهما كان النقد لطيفاً أو فيه قدر من المراعاة لمشاعر الآخرين. ولكن بالنسبة لأصحاب العقليات المتحضرة فإنهم يقبلون النقد الموضوعي البنّاء؛ لأنهم يسعون إلى التحسين والتطوير، ويرحبون بالنقد البنّاء حتى وإن كان موجعاً؛ فإنهم يقبلونه طالما كان هادفاً أو موضوعياً وبنّاءً، وليس حاقداً أو خبيثاً أو كيدياً. ويمكن بواسطة النقد الموضوعي بناء مستويات عالية من الثقة المتبادلة بين الطرفين، مع قدرٍ من التعاطف والحميمية والإخلاص التي يجب أن يدركها أصحاب التفكير الأحادي ويرضون بها. وأصحاب التفكير الأحادي المستبدون برأيهم يعتمدون على رؤيتهم الأحادية التي يبنون عليها قراءاتهم للواقع وتفسيراتهم للمعطيات، ويكوّنون من خلالها تصوراتهم للكون، ويتمسكون بتحليلاتهم والنتائج التي وصلوا إليها، ويعتبرون أن وجهات نظرهم الوحيدة هي المقبولة والتي يمكن أن تكون صحيحة، لا تحتمل الخطأ، ولا تقبل النقد أو الشك، ويرفضون ما عداها؛ ولهذا السبب نجدهم لا يلتزمون بالمنهجية أو الموضوعية، ويلجؤون إلى اتهام وتجريح الأشخاص الذين ينتقدونهم متجاهلين جوهر القضية الأساسية موضوع النقد. كما أن أصحاب الفكر الأحادي المستبدين برأيهم يرفضون النقد الموضوعي البنّاء، ويتركون نقد القضية موضوع النقاش، ويتجاوزونه إلى نقد وتجريح الأشخاص الذين انتقدوهم نقداً موضوعياً بنّاءً، ويبتعدون عن المنهجية الموضوعية الهادفة التي تؤدي إلى التحسين والتطوير في النقد الموضوعي البنّاء الذي يرتكز على الأدلة الصحيحة والحجج القوية والبراهين الدامغة لإثبات أوجه النقص أو القصور أو الخطأ في القضية موضوع النقاش، مع البعد عن النقد والتجريح للأشخاص..
من أفضل الطرق المنهجية الحديثة لنقد الذات وسائل الإعلام الحديثة، مثل التلفزيون والسينما واليوتيوب؛ لأنه بواسطتها يمكن تجسيد القضية موضوع النقد في سيناريوهات تمثيلية، يتم عرضها بواسطة المسلسلات التلفزيونية أو الأفلام السينمائية، أو عبر قنوات اليوتيوب؛ لتنتقد جوانب القضية موضوع النقاش التي يراد معالجتها، بعيداً عن النقد والتجريح للأشخاص أنفسهم؛ لأن التلفزيون والسينما واليوتيوب وسائل مؤثرة وعابرة لحدود الدول والقارات، يمكن بواسطتها إظهار العادات المتنوعة والتقاليد المختلفة التي يمارسها المجتمع، وأسلوب الحياة، وطريقة التفكير فيه، ونشر القيم الإنسانية الراقية والمبادئ النبيلة، والترويج الحضاري، وتناول المشكلات العامة ومعالجتها، مثل الدعوة إلى مكارم الأخلاق، والتحذير من العادات الاجتماعية الخاطئة والبدع الدينية والفتن الطائفية، وكشف قناع التطرف والغلو، وتبرير الإرهاب باسم الجهاد، والتحذير من الهدر الغذائي والإسراف، ومخاطر التلوث البيئي، وطرق الوقاية من الأمراض المعدية، وغيرها من القضايا التي تضر المجتمع؛ لذلك فإن رفض المنهجية الهادفة وعدم قبول النقد الموضوعي البنّاء الذي يُعرض عبر هذه الوسائل الحديثة العابرة لحدود الدول والقارات يعتبر انهزاماً، وهروباً من ميدان النقاش وساحات الثقافة والتأثير الحضاري، وتركها شاغرة لأصحاب الفكر الضال والديانات المنحرفة والعقائد الباطلة لنشر سمومهم بين أوساط المجتمع الإسلامي، مثل: رسائل الكراهية ومشاهد الإرهاب المصورة، والأفلام العربية الهابطة والأجنبية الماجنة.. لذلك فإن إعداد المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية وفيديوهات قنوات اليوتيوب كوسائل منهجية لنقد الذات يحتاج إلى هامش عريض من التسامح، وتفهُّم رأي الآخرين، والتعايش السلمي معهم. وبدون ذلك سيحدث اختراق لخطوط المحظور الوهمية التي أقنعوا بها أنفسهم، وعندها لن يتردد أصحاب التفكير الأحادي المستبدون برأيهم في استعمال أدوات القياس الخاطئ والاجتهاد المنحرف للحكم على القضية المطروحة على بساط النقاش، والهجوم الصريح على كاتب النص والمنتج والمخرج ومختلف الشخصيات التي ساهمت في النقد الموضوعي البنّاء الذي قد يصل إلى أقصى حالاته، مثل الهجوم الشخصي وتكفير بطل السيناريو التمثيلي والمؤسسة الإعلامية المنتجة له. كما أن ثورة المعلومات والتكنولوجيا المتاحة بين أيدي الناس خلقت مستوياتٍ متفاوتة من حريالكلمة والتعبير، التي تتطلب مستوياتٍ مناسبة من التسامح وقبول الرأي الآخر والتعايش معه؛ وبالتالي يجب على المسلم المبدع أن يتحرر من قيود التقليد والجمود؛ ليستطيع أن ينقد الذات بأسلوب حديث بوسائل الصوتِ والصورة والمؤثرات الفنية السمعية والضوئية المبطنة برسائل العلاجِ والتوعية والإرشادِ..
إن التلفزيون والسينما وقنوات اليوتيوب في الوقت الحاضر وسائل حديثة، تُعتبر أكثر تأثيراً في النفس البشرية من خطاب التوعية والإرشاد التقليدي الذي يقتصر على استخدام المايكروفون ومكبرات الصوت، كما أنها تعتبر في الوقت نفسه وسائل مهمة للفكاهة والترفيه، وملائمة لتحقيق المنهجية الهادفة اللازمة للنقد الموضوعي البنّاء. وإضافة إلى ذلك، فإنه من مزايا توظيف المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية وفيديوهات قنوات اليوتيوب في نقد الذات أن أبطال السيناريوهات يتحدثون بلغة الجمهور وثقافته نفسها، كما أنهم قطعة من نسيج المجتمع، ويحملون القيم والمبادئ والعادات والتقاليد التي يحملها الجمهور، كما أن جمهور المتفرجين سيشعر بالتجاوب مع القضايا التي تمس حياتهم، ويستجيب لرسائل النقد والتوجيه التي توجد بين ثنايا النص، ويتقبل التوعية والإرشاد التي يدعو إليها، ويستطيع بسهولة ربطها بالتطبيق العملي في واقع الحياة.
الخلاصة:
إن حاجة المجتمعات الإسلامية إلى توظيف التلفزيون والسينما وقناة اليوتيوب لمعالجة القضايا المعاصرة بمنهجية هادفة ونقد موضوعي بنّاء أكثر من حاجتها للتفكير الأحادي المستبد برأيه، الذي يتجاوز المنهجية الموضوعية إلى نقد الشخصيات وتجريحها والقدح بها، بدلاً من مناقشة القضايا موضوع النقد.