أ. د. فالح العجمي
من كان يفكر أن يتوجه أصحاب المصانع في هذه الحقبة الرقمية إلى تحويل الطابعات إلى منتج لأشياء محسوسة وثلاثية الأبعاد؛ بل وأكثر من هذا أشياء يعتمد فيها على الأمان والمتانة بالدرجة الأولى. وفكرة الطابعة عند كثير من الناس لا تتجاوز آلة لتحويل المكتوب على أجهزة الكمبيوتر إلى الورق؛ بالحبر أو بالليزر في تطوراتها الأخيرة في الطباعة، وباللون الأسود أو بألوان مختلفة حسب الشركة المصنعة ونوع التقنية التي تستخدمها. أما أن تتحول هذه الأجهزة إلى مصانع حديثة قليلة التكلفة ودقيقة جداً، فهو - في ظني - ما لم يخطر ببال أحد من أصحاب الخيال العلمي من قبل.
وعندما ظهرت تقنية الأبعاد الثلاثة لم يكن الناس يفكرون بغير مشاهدة السينما، التي كانت صورها في الأفلام التي استخدمت تلك التقنية، ليس من خلال البعدين المعهودين من قبل، بل أيضاً من خلال بعد العمق الغائب عن الصورة أصلاً. لذلك ارتبطت هذه التقنية باستخدام نظارة المشاهدة الخاصة بالأبعاد الثلاثة، سواء كان ذلك في السينما، أو في شركات الألعاب الإلكترونية التي أدرجت هذه المستجدات ضمن تطوير منتجاتها، والحصول على قصب السبق في المنافسة ضمن تلك السوق القائمة على جذب أكبر عدد ممكن من الشباب وصغار السن، بما يبهرهم أو يجعلهم يتابعون الأجيال المتعاقبة من كل لعبة أو أدواتها المختلفة. فعملية التميز في التسويق لم تعد كما كانت في عصور مضت قائمة على إبراز مميزات منتج ما، وجودته وقدرته على البقاء أطول من منافسيه في الأسواق، بل في جعل زبائن تلك الشركة المنتجة يرتبطون بكل ما تنتجه هذه الشركة من منتجات رئيسة، وكذلك من اكسسواراتها التابعة لتلك المنتجات. استخدمت هذه السياسة شركات الألعاب الإلكترونية المختلفة، وشركات التقنية الدقيقة (في السوفت وير) بدءاً من مايكروسوفت، ثم أبل وسامسونج وغيرها بالتأكيد في الطريق.
عودة إلى هذا التطور النوعي في صناعة المنتجات الثقيلة (الهاردوير)، وهو بالطبع تطور ما كان ليتم لولا النجاحات الباهرة، والدقة الشديدة في منتجات السوفت وير، التي مكّنت كثيراً من المصانع من برمجة خطوط الإنتاج فيها بأثر من بعض البرامج، التي أعطت ميكنة الإنتاج بعداً جديداً لم يكن معهوداً قبل التطور في تلك البرامج الرقمية، التي أصبحت تعمل بطريقة شاملة تراعي كل العوامل المطلوب الاهتمام بها أثناء الإنتاج، مما جعل كثيراً من الصناعات - خاصة ذات خطوط الإنتاج الكبيرة - تصبح أكثر سهولة، وأرخص تكلفة، وأقل حاجة لليد العاملة، وربما في بعض المنتجات أقل هدراً في المواد الأولية، وغير ذلك من الميزات التي ليس هذا هو المجال لتعدادها.
وما حصل في العقد الثاني من القرن العشرين هو تحويل ذلك التطور النوعي من أرض المصنع إلى قلب التقنية، أو الآلة (الهاردوير)، الذي كان يوجه الإنتاج، ويساعد في تقنينه. فقد أصبحت الآلة (وهي ما زالت تحمل الاسم نفسه الذي تحمله عندما كانت عنصراً مساعداً) هي المصنع؛ بالطبع يزداد حجمها عن الحجم الذي كانت عليه، عندما كانت تستقبل الأوامر من السوفت وير المثبت في جهاز آخر، ليخرج المنتج في بعدين قريبين مما يوجد في شاشة جهاز الأوامر. أما الآن فهي تقوم بإنتاج أدوات وقطع ثلاثية الأبعاد، من مواد مختلفة؛ وبنفس المراحل: التصميم - المواءمة - التنفيذ. لكن المحطة الأخيرة الخاصة بالتنفيذ (وهي الطابعة الثلاثية الأبعاد)، لم تعد مخزناً للحبر أو الشريط المعتمد على الليزر، بل أصبحت مصنعاً قائماً لأخذ الأوامر والقيام بتصنيع قطع السيارات، أو جدران المنازل وأعمدتها وخرساناتها، ثم يقوم المنفذون النهائيون بتركيب هذه القطع في سيارة أو منزل وغيرهما.