أ. د. فالح العجمي
ما الذي يجعل طريقة ما في الحياة، أو خطة عمل في البناء وتحديد الأهداف، يُطلق عليها استراتيجية، وعلى الأفعال المتوازية والمناقض بعضها بعضاً، تُسمى فوضى وعبث غير ذي هدف واضح؟ في الواقع إن استراتيجيا، ومشتقاتها من الألفاظ المتعددة الأبنية في العربية أو غيرها من اللغات، آتية من اللفظ اللاتيني القديم strata، أو «الصراط» كما عرّبه العرب، الذي يعني «الطريق»، ومعروف أن الطرق التي وضعتها الإمبراطورية الرومانية في روما أو مستعمراتها في الخارج كانت مستقيمة وواسعة وواضحة الملامح.
ومن خلال هذه المقدمة يتضح أن طريقتنا في الحياة، أو فلسفة بيروقراطيتنا، التي أسميتها في هذه المقالة بمصطلح «حيري ديري»، ليست استراتيجية بالمعنى الصحيح، وإنما مجازاً نطلق عليها كذلك؛ خاصة أن دهاقنة البيروقراطية عندنا يطلقون على كل ما يريدون به جذب انتباه العامة، أو جلب الأموال لمشروعاتهم الخنفشارية، استراتيجية كذا في الوصول إلى كذا. وربما أصبح إطلاق السنوات الميلادية مصاحبة للفظ استراتيجية مجالاً خصباً للضحك على الناس (مثل: استراتيجية 2030)، إلى أن تحل بدلاً منها استراتيجية جديدة يُطلقها مسؤول جديد، يسابق الزمن للحظوة بما ناله سلفه المختلف عنه في الأهداف والوسائل.
الأمثلة في هذا المجال كثيرة، غير أن أول ما أتذكره منها، هو ما كان قد أصاب خطط بناء خطوط للسكة الحديدية في المملكة، مع وفرة المال خلال الطفرة الأولى. فقد قام المسؤول عنها آنذاك، ولم يكن بأقل من شخصية فذة هو الدكتور غازي القصيبي، ذو الوزارات المتعددة، برفض الخطط بحجة أنها ليست اقتصادية، ولا مجدية في بلد مثل السعودية. وها نحن بعد عقود نبدأ في أولى الخطوات، التي كانت ستصبح بنية تحتية، لا تكلف مئات الملايين؛ بينما نصرف عليها المليارات الآن، عدا عن الخسائر غير المنظورة في تهتك الطرق البرية للسيارات بفعل الشاحنات، التي كان سيقل عددها كثيراً، لو وجدت تلك الخطوط الحديدية، وعدا عن إزهاق الأرواح والإصابات في حوادث الطرق، التي تتسبب بها كثرة الشاحنات على طرقنا البرية. وعلاوة على ذلك، كنا سنصبح الآن نملك خبرة فنية محلية، هي ما تسعى الآن المؤسسات المعنية بالحصول عليها من خلال ما تناقلته الأخبار عن ابتعاث 1000 طالب للدراسة واكتساب الخبرة في هذا المجال. وهل نشك في نية غازي القصيبي، أو مدى إخلاصه بالنصيحة؟ لا، طبعاً، ولكن هذا هو الحال عندما تكون القرارات المهمة فردية.
وكثير منا أيضاً يتذكر ما جرى في شؤون المياه، من تصادم الدراسات والتقارير؛ بعضها سري ومن جهات علمية، وبعضها من شخصيات مقربة من أصحاب القرار. حيث يفيض بعضها في كوننا نعيش على بحيرات من المياه الجوفية غير الناضبة، وبعضها يحذر من كارثة ستحل بنا، إن استمر نزيف المياه على وضعه الحالي. وواضح أن تيار المصالح كان راغباً في تسخير بعض تلك التقارير للحصول على مكاسب مادية من خلال مزارع القمح وغيرها التي امتلأت بها البلاد وبدعم رسمي من السلطات المعنية.
التعليم هو الآخر ناله نصيب من هذه «الاستراتيجية»؛ حيث مرت سنوات لا نسمع فيها إلا بالمليارات التي تصب في برنامج كذا، واستراتيجية كذا، دون أن نلمس أثراً لأي منها. بل إن أحد المسؤولين كان قد صرح علناً: امنحوني عشر سنوات، ثم حاسبوني. طبعاً، هو يعرف كما حدث أنه لن يبقى تلك المدة، ولم يحاسبه أحد. ومثلها من الاستراتيجيات وقعت في الإسكان، التي حصلت على مليارات كافية لحل الأزمة، لكنها ضاعت في خضم الاستراتيجيات. فهل ما زلنا لا نؤمن بضرورة المناقشة العامة؟