من المؤكد أن كثيراً منا قد سمع بأناس ربما يسميهم الشباب الحاليون: أهل المهايط. ولكن باختلاف درجاتهم في التوسع في مراحل الهياط أو الاكتفاء بقدر منه، فإن النماذج التي تربط الأحداث والتحولات بقصص فردية هم من ذلك النوع الأسطوري. فهناك عدد من أصحاب القولبة الفكرية، تجذبهم القصة والحكاية الغريبة بدلاً من مضمون الحدث الذي يستدعي التأمل، والتوقف عند مفاصله، واستنتاج ما يمكن أخذه منه من خلاصة. نسمع ببعض التعليقات واستنكار ما يفعله بعض العباقرة الذين توصلوا من خلال تأمل حادثة ما والتوقف عند أسبابها، إلى نتائج مبهرة، لأنهم من النوع الثاني؛ بينما يردد أصحاب النموذج الأسطوري عبارات السخرية منهم. من ذلك مثلاً ما يردده بعض البلهاء الممثلين للنموذج الأول عن القصة التي وقعت لنيوتن عندما سقطت التفاحة عليه أو بقربه وهو يستظل تحت شجرة التفاح، فبدأ يتساءل عن أسباب سقوطها، إلى أن توصل إلى اكتشاف ظاهرة الجاذبية. في حين يتهامس الساخرون ببلاهة: «هذا المعقد (أو السايكو)؛ لو كان أخذ التفاحة وأكلها، ولم يشغل دماغه بتلك الأفكار المتعبة»! فهم يسعون إلى تبسيط مفاهيم الحياة، ويريدون أن يكون جميع الناس على ذلك المنوال. فإذا حكيت لأحدهم عن متعة معرفية توصلت إليها خلال رحلة إلى منطقة جديدة من العالم، أو من خلال متحف ثري وجديد لم تزره عن تاريخ جديد، أو معارف لم يسبق لك التعرف عليها؛ بادروك بالعبارة السائدة لديهم: وبعدين؟ وش استفدت؟ عرفت هذا .. خير يا طير! عندها تود أن تغادر عالمهم، أو تتنزل عليهم صاعقة من السماء تريح الناس من تثبيطهم وأذاهم النفسي على نماذج المتأملين، الذين يفيدون البشرية، خلافاً لهم ولعناصر نماذجهم.
وللأسف أن النموذج الأول يكثر في مجتمعاتنا، لأنها تغذيه من جهة بعدم حرمان من لا يجتهد، أو يكون متميزاً في تكوينه الذاتي وتعامله مع محيطه بإبداع، من فرص الحصول على العمل، أو الترقي فيه إلى درجات عليا. كما أنها توجد من جهة أخرى القدوة الجاذبة لهذا النموذج بتبجيل بعض تلك العناصر لأسباب غير موضوعية، ولا يمكن فهمها إلا من خلال تقبّل العلل المتأصلة في مفاصل التقدير وإعلاء النماذج فيه. أما المجتمعات العقلانية، فإن جلّ أفرادها ينظرون إلى الروابط وسمات المشهد بكامله، وليست العناصر القصصية البسيطة، وجزئيات ليست بذات أهمية في تسلسل الأحداث وتراكم مسبباتها.
وبالرغم من تكرار بعض المفردات والقصص والأسماء لدى كلا النموذجين، إلا أن الفارق كبير جداً بينهما؛ ويكمن في طريقة التفكير، والنظر إلى معنى الحياة والاشتغال بالجوهر فيها، وليس بالعرض، كما هي الحال في أوضاع أصحاب النموذج الأول. ومنذ أن تغلب ما يسمى homo sapiens على الكائنات الأخرى، وهو يسعى إلى إخضاع العالم لإرادته من خلال التحكم في قوى الطبيعة، أو تسخيرها لمصلحته، ولن يتمكن من ذلك إلا إن كان عقلانياً في تفكيره، وغير مستسلم لعناصر التفكير الأسطوري في مراحل الإنسان الأولى. وما لم يقتنع أغلب البشر، أو مجتمعات الأرض بصورة عامة، أنها لن تسير باتجاه أنسنة هذا الكوكب إلا من خلال مزيد من الجدية في صناعة فكر التأمل بصورة دائمة؛ فإن عناصر الدمار ستسبق عناصر الإعمار في السيطرة على تفكير الناشئة في الأجيال القادمة. وهذا هو ما نلمسه من فارق فعلي بين التعليم في البلدان المتقدمة، وما يقابله من تدوير للمعلومات المراد حشوها في أذهان الصغار، ليردد من لم يتمرد منهم على النسق، بعد إتمام العملية، عبارات السخرية ممن يسهمون في بناء حضارة الإنسان واستمرار تفوقه.
- الرياض