أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ في السبتية السابقة: أنَّ عربيَّ السَّلِيْقَةِ أَفْقَهُ في دين اللهِ مِن الفقهاء بعد فساد السليقة؛ لأنهم يَتَعَلَّمُوْن لغة العرب بالأمثلة النحوية والبلاغية واللغوية مفردةً وصيغةً ( الوزن )، والرابطة (مِن حروف المعاني )، والسياق؛ ولهذا يختلفون في تحديد المعنى المُراد،
وعربُ السليقة لا خلاف بينهم؛ لهذا قامتْ عليهم حُجَّة الله في وجوبِ إطاعتهم الشرع، وتحريم معصيته، وأذكر نموذجاً لذلك من قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15) سورة يونس.
وقالوا في موضعٍ آخر كما أخبر عنهم بقوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (203) سورة الأعراف.
وفقهاء ما بعد السليقة سيتردَّدُون في معنى: اِئْتِ بقرآن غير هذا، أو بَدِّله: ما الفرق بينهما ؟.. أليس الإيتاء بغير القرآن هو تبديله؟.. ولكنَّ عربيَّ السليقة يعلم الفرقَ بين الْمِثْلِيَّةِ والتبديل، وأَسْتَظْهِرُ لكم الفرقَ مِن قصَّة (الوليد بن المغيرة)؛ ففي كُتبِ التفسير هذا العنوان: (مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلم، وإقامةُ الحجة الدامغة عليهم، وَاعْتِرَافُهمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالْحَقِّ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْمُخَالِفَةَ عِنَاداً وَحَسَداً وَبَغْياً وَجُحُوداً ).. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوِيْهِ: (( حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ: عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: عَنْ عِكْرِمَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رضي الله عنهما، ورحمهم جميعاً: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم؛ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ يَا عَمِّ: إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا.. قَالَ لِمَ ؟. .قال: لِيعطُوكَهُ؛ فإنك أتيت محمداً لِتَعْرضَ ما قِبَلَهُ.. قال: قد علمتْ قريش أني من أَكْثَرُهَا مَالًا.. قَالَ فَقُلْ فِيهِ قَوْلاً يَبْلُغُ قومك أنك مُنْكِرٌ له [أو أنك كارهٌ له].. قال: وماذا أقول؛ فوالله ما منكم رجل أعرف بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ، وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ.. وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُوَ وَلَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ..قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ.. قال: فدعني حتى أُفَكِّر فيه، فلما فكر قال: (إِنْ هَذَا إِلَّا سحر يؤثر.. يأْثِرُهْ عَنْ غَيْرِهِ؛ فَنَزَلَتْ: ?ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا? (سورة المدثر 12 - 13).
هكذا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيِّ بِمَكَّةَ: عَنْ إِسْحَاقَ بِهِ.. وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: عَنْ أَيُّوبَ: عَنْ عِكْرِمَةَ مرسلاً.. وفيه أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل/ 90]...
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: عَنِ الْحَاكِمِ: عَنِ الْأَصَمِّ: عَنْ عبَّاس الدُّورِيِّ: عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ: عَنِ الْأَجْلَحِ بِهِ.. وَفِيهِ كَلَامٌ، وَزَادَ: وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّيَاسَةُ [أيْ تريدُها] عَقَدْنَا أَلْوِيَتَنَا لك؛ فكنتَ رأساً ما بقيتَ.. وعنده أنه لما قال:
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [ سورة فصلت / 13].
أَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عنهم).
قال أبو عبدالرحمن: ما قَدِرَ فرعونُ هذه الأمَّةِ أبو جهلٍ لعنه الله أنْ يصده عن اعترافَه بحجَّيَّةِ هذا القرآن الكريم، وما عنده شيئٌ من الْمُغْرِياتِ أكثرَ مما عند الوليد؛ فالوليد أكثر مالاً، وأكثرُ ولداً، وأعلمُ بفنون القول وبلاغته؛ ولكنْ قَتَلَه ما عَلِمَهُ الله من قلبه؛ فهو فَكَّرَ وفكَّر وقَدَّر، ولكن قَتَلهُ ما قَدَّر: مِن حَسْدِه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَبَغْيِهِ عليه أَنْ كان مصطفىً من ربه بنعمةِ الوحي وهو لم يكن مثله في كثرة المال والولد والرئاسة؛ فجحدَ ما لَزِمَتُهُ حجته، وادَّعى أنَّ ما اصطفى الله به عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم: سِحْرٌ يَأْثره عن غيرِه.. وأخبر الله عن الوليد أنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن غير هذا.. أيْ يأتي بهذا القرآن، ويَتْرَكَ منه الوعيدَ، ولهذا وضع يدَه على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم المطهَّر لَمَّا أنذرهم بالصاعقة، ولزم بيته مستوحشاً؛ فهذا مَعْنى: (غير هذا)، وأعجَبه أمْرُ الله بالعدلِ.. إلخ؛ فهو يريد مِثلَ هذه الآيات.. وأما تبديلُه فهو أنْ يَجْتَبيَ مِثْلَهُ؛ وهو الافتراءُ على الله.. والله سبحانه وتعالى عاصمٌ عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، مُجَرِّدةُ للعبوديةِ لربه بهذا الوعيد الذي يأخذ بتلابيب القلوب:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [سورة الحاقة / 40-50].
فهذا هو التبديلُ، وقِصَّةُ الوليد بن المُغيرة واحدة؛ فالراجح لديَّ أنه المعنيُّ بالمُكَذِّبين الكافرين، والله أعلم.
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ في بحوثي بهذه الجريدة: أنَّ أبو جهلٍ [ الضمُّ على الحكاية] أَحَدُ ( العُمَرَيْنِ اللَّذَين دعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يعزَّ الإسلام بأحدهما؛ فكان ( أبو جَهْلٍ الْمَأْبونُ) شَراً على قومِه.. كَنَوْهُ أبا الحكم؛ فَنُسِي ذلك لَما كَنَاهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بـ(أبو جهل).. صَدَّ أبا طالبٍ عن الإيمان، وصَدَّ صاحب الجَملِ الأحمرَ ربيعَةَ بن شبيةَ، وصدَّ الوليد بن المُغيرة، وصَدَّ كثيراً غيرَهم؛ فانقلبوا عن إيمانِهم، وَأَخَذَتْهم الحميةُ بالباطل.. وأبو جهل نَفْسُه كفرعونَ تماماً تماماً: جاءَتْه آياتُ رَبِّنا وهو يَعْلَم يقيناً صِدْقها فضلَّ وأضلَّ قومَه كما في قول ربِّنا سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة النمل / 13-14]..
وأَما عُمَرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فكان رحمةً للمسلمين منذُ إسلامِه وقد هاجر إلى المدينة لاحقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المُصَارِع القويُّ الحصيفُ المُلْهم قائلاً: (مَنْ أراد أنْ تثكَلْه أُمُّه فليحقني بباطن هذا الوادي).. كان رحمةً للأمة من ذلك الوقت إلى أن لقي ربَّه شهيداً.. وكان الحصيفَ المُلْهمَ الرقيقَ القلبِ، السريعَ الدمعةِ، الأوَّابَ المنيبَ، وهو مَضْرِبُ المثلِ في العدلِ.. أمضَىَ الله الأخْذَ بسنته بإجماعِ الصحابةِ رضوانُ الله عليهم، وزالَ الخلافُ كما في الفتوح الإسلاميةِ المباركة.. وفوقَه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.. لا أَحَدَ يُباريه أو يجاريه في العلمِ بربِّه، وحقوقِه على عبادِه، وخشْيَتِه إياه، وَقُوَّته على كبر سِنِّه، وَضَعْفِ بدنه: ( رِدَّةٌ ولا أبو بكر لها ).. مات حُزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقِيل: (مات مسموماً)، ولا أَعْلَمُ صِحَّةَ هذا؛ والذي أعْلَمه أنه وَعَكَتْه الْحُمَّى بعد اِغْتِسِالِه؛ فمات على إثْرِ ذلك.. رضي الله عنه، وأَرْضاه، ولعن مُبْغِضِيه وشانئيه وشاتِميِه لعائن تَتْرى إلى يوم القيامة.. ومِن (سُوْرْ يالِيَّتي) التي أرجو اللهَ أنْ يرحمني بها، وأنْ أكونَ مع وفي مَن أَحْبَبْتُهم وَعِشْتُ معهم في (حُلْمِ الْيقظةِ): أنَّ بلالاً رضي الله عنه أذَّن في مسجدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ فوضع الصحابةُ رضي الله عنهم رؤوسهم بين رُكَبِهِمْ يبكونَ، ولصدورِهم أزيز كأزيز المِرْجل، وكنتُ معهم في هيئتهم، وأنا في حُلْمِ اليقظة؛ فالحمد لله شكراً شكراً.
قال أبو عبدالرحمن: وأسلفتُ في بحوثي بهذه الجريدة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئِل عن الشيبِ الذي أسرع إليه: قال: شيبتني هود.. ثم ذكر عدداً من أخواتها كسور الإسراء والحاقَّة والواقعة والمرسلات والتكوير وعمَّ.. وكلُّ طُرُقِ الأسانيد عنه صلى الله عليه وسلم مَعْلولُةٌ، وفي إحدى الطرق كَذَّابٌ.. إلا أن بقيَّة الطُّرق ليس فيها كذَّاب، وليستْ من بابِ سَرِقَةِ الأسانيد، وهي تعطي عِلْماً رُجحانياً بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؛ لأنه لا يروي عن وَحْيٍ أنزله الله عليه؛ وإنما يروي عن نفسِه تأثيرَ تلك السُّور في قلْبه؛ وقد صحَّ لنا: أنه صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه الكريمتان، وقال للصحابي الذي يقرأ عَلَيْهِ رضي الله عنه: (حَسْبُكَ) شَفَقَةً على أُمَّتِه.. وأيُّ قلبٍ مثلِ قلب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا يتصدَّعُ من خشيةِ الله وهو جلَّ جلاله يجرِّدِّه للعبودية لربه بقوارع تُفتِّتُ القلبَ كما مَرَّ عن قطْعِ الوتين، وكقوله تعالى:
{وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [ سورة الإسراء / 39].
وهكذا عتابُ اللهِ إيَّاه في أسْرى بدر، وفي قصة الأعمى.. إلخ.. إلخ.. وقد أسلفتُ أيضاً في بحوثي: أنَّ اللهَ يُحَذِّر عبادَه في أكثر مِن آية بما يَعْلمُه مِن سرائرهم؛ فيعلم مَن كان صادقاً فيما يقول.. ويعلم مَن في قلبه نفاقٌ، أوْ جحد لِلْحقِّ لأسبابٍ خطيرة كالرياء، والحميةِ للباطل.
* * *
بين الملك فيصل رحمه الله تعالى، وَمُوْريْسْ بوكايْ:
قال أبو عبدالرحمن: في السَّبْتِيَّةِ الماضية كانت نُقْطَةُ.. [اسمُ ( أنَّ)، وخبرها: خَبَرُ (كانتْ)] تَحَوِّلي إلى أنَّ عَرَبيَّ السليقةِ أَفْقَهُ من الفقهاء الذين فاتَتْهُمْ السليقة؛ فاسْتَعْرَبوا بأخذ اللغة استنباطاً؛ ولهذا كانتْ في اختلاف الفقهاء رحمةٌ للأمَّة ببرهانِ أنَّ مَن اجتهد فأخطأ وهو صادقٌ في سريرته مع رِبَّه أنَّه يَتَحرَّى مُرادَ الشرع، وليس له هوىً غيرُ ذلك [الضَّمُ على تقدير عاملِ الظرف (له) اسماً لِـ(ليس ) ]: فله أجْرٌ ومَعْذِرة، وأمَّا عربيُّ السليقة فهو أفْقَهُ؛ ولهذا لزمته الحجةُ بوجوبِ طاعَتِه شرع ربه، وتحريم مَعْصِيتِه إياه.. وكانتْ لِلْمستشرق الفرنسي (غاستون بلاشير) ترجمةٌ للقرآن الكريم اطَّلَعَ عليها ( بوكايَ)، وكان مرضىً مِن المسلمين يتعالجون عنده في عِيادتِه، وكان يقول لِكلِّ واحدٍ شُفِي عنده: (( ماذا تقول في القرآن: هل هو من الله تعالى أنزله على محمد [صلى الله عليه وسلم]، أم هو من كلام محمد نَسَبَهُ إلى الله افتراءً عليه؟؟.. قال: فيجيبني: هو من الله، ومحمد [صلَّى الله عليه وسلم ] صادق.. فأقول له: أنا أعتقد أنه ليس من الله، وأنَّ محمداً ليس صادقاً.. قال: فيسْكتْ.. ومضيتُ على ذلك زماناً حتى جاءني الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية؛ فعالجته علاجاً جراحياً حتى شُفِي؛ فألقيت عليه السؤال المتقدم الذكر؛ فأجابني: بأنَّ القرآن حقٌّ، وأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق.. قال: فقلت له: أنا لا أعتقد صدقه.. فقال لي الملك فيصل: هل قرأت القرآن؟.. فقلت: نعم قرأته مراراً وتأملته.. فقال لي الملك فيصل: هل قرأته بلغته، أم بغير لغته ؟.. أيْ بالترجمة.. فقلت: أنا ما قرأته بلغته، بل قرأته بالترجمة فقط.. فقال لي: إذن أنت تُقَلِّدُ المترجِمَ، والمقلِّدُ لا عِلْمَ له إذ لم يطَّلع على الحقيقة؛ لكنه أُخْبِر بشيئ فصدَّقه.. والمترجِم ليس معصوماً من الخطإ والتحريف عمداً؛ فعاهِدْني أن تتعلَّم اللغة العربية، وتقرأَه بها، وأنا أرجو أنْ يتبدَّل اعتقادُك هذا الخاطِـئُ.. قال: فتعجبتُ من جوابه، فقلت له: سألتُ كثيراً قبلك من المسلمين فلم أجد الجواب إلا عندك.. ووضعتُ يدي في يده، وعاهدته على أن لا أتكلَّم في القرآن، ولا في محمد [صلى الله عليه وسلم] إلا إذا تعلمتُ اللغة العربية، وقرأتُ القرآن بلغته، وأمعنتُ النظر فيه: حتى تظْهرَ لي النتيجة بالتصديق أو بالتكذيب )).. وكانتْ حصيلةُ تَعَلُّمِهِ اللغة العربية كتابُه ( التوراةُ والإنجيلُ والقرآنُ والعلمُ الحديثُ ).. ويكفي أنَّ كتابه هذا أحدث جدلاً طويلاً شديداً في بلاد قومه، وصدر رأيُهم العامُّ أنَّ الكتابَ شاهدٌ على التحقيق العلمي النزيه.. وإلى لقاء عاجلٍ إن شاء الله، والله المستعان.