ظل مفهوم الثقافة الذي محل الدراسة من قبل العديد من الباحثين لمحاولة إعادة بلورة المعنى الفضفاض الذي تعطيه هذه المفردة المستعارة من اللغة الفرنسية cultivé وتأصيلها بأساليب عديدة وربما محاولة تقديم معنى لمفهوم المثقف بناء على الوظيفة التي يؤديها مُجدية. وذلك باعتباره عامل فكري يتناول الأفكار كوِحدة ومستوى ونطاق.
ورغم أن هذا المفهوم نمى وتبلور على يد الانثروبولوجيين وتضمن المعرفة والإرث الاجتماعي بما فيه من أساليب حياة وفلكلور ومعاني إلا أنه يرى أن الإنسان هو من يصنع معنىً للأشياء. وهو ما يتقاطع مع الفكرة التي نقصدها بالمثقف إذا اعتبرنا -من منظور غرامشي- أن كل إنسان مثقف بشكلٍ ما.
وهذا المعنى الوظيفي يضع المثقف أمام مسؤولية إنتاج وابتكار الأفكار وبناء أسس لزوايا جديدة، يمكن من خلال الوقوف عليها تقديم أبعاد جديدة تسهم في خلق رؤية خاصة متكاملة، وعليه وجب على المثقف -باعتباره عامل كأي عامل- امتلاك الأدوات التي يستطيع بها تلقيح الأفكار وإجراء المقاربات وتنقيحها وإضافة العمق والأبعاد قدر الإمكان.
نحن لسنا في حاجة لمثقف يتبنّى اتجاه تشاؤمي نحو الواقع والمستقبل بحيث لا يمكن استزراع معرفته لإنشاء أرض فكرية خصبة، وليس الحل أيضاً في مجاملة أشباه المثقفين المُتثيقفين ممن تتلقفهم دور النشر لأغراض تجارية بحته دون الأخذ بعين الاعتبار ريادة الفكرة وجودة المحتوى، لأن ارتجالية التأليف وعشوائية النشر تخلق -ولو بعد حين- ذائقة ركيكة يُدهشها (العادي) فيغدو هو المعيار والسقف.
إنَّ من يمتلك الفكرة الرائدة يمتلك الأداة، ومن يمتلك الأداة يمتلك السُّلطة، ومن يمتلك السُّلطة يخلع عباءة التبعية وهذا ما ننشده. ربما هذه ليست مشكلة المُتثيقف حين أضحت الثقافة مهمة من لا مهمة له بحيث تملي عليه الثقافة المجتمعية أفكاره وتأدلجها بل من أن يقوم هو بصناعة الفكرة والفكر وهذه هي مهمته أساساً. لكنها إشكالية المفهوم المستعار أولاً والسياسات الثقافية ثانياً تلك التي يشتكي من ضبابيّتها أغلب المثقفين السعوديين. وثالثاً الثقافة المجتمعية التي تحتوي على تابوهات تمجّد القديم باعتباره إرث وتسلّم بأي فكرة مؤطرة بإطار الدين -ولسنا بصدد الحديث هنا عن مدى عقلانية الإسلام ودعوته للعلم والتفكر فنحن نُسلم بهذا لا شك- وأخيراً فإن المثقف الحقيقي بنظرة غرامشية هو الذي يتحسس احتياجات مجتمعه ويعمل على صناعة الأفكار كأطواق نجاة لإنقاذ الأفراد من لُجّة التزييف والتقليد لميناء الحقيقة والابتكار.
- لمى البدنه