مضى ما يقارب عشر سنوات على وفاة فقيدنا الغالي عبد الرحمن البراهيم البطحي، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته ووالدينا وجميع المسلمين. كان الرجل إنسانًا متميزًا بطبعه وسليقته، وقمة في التواضع والقناعة وعفة النفس. وكان غزير الثقافة، هادئ الطبع. يضمر الود للجميع ويرحب بكل زائر في أي وقت، كريم الخلق و حسْن المحيا.
زاملته في مرحلة الدراسة المتوسطة، وكان نعم الصديق والزميل. كان ذا شخصية جذابة ونجمًا بين الطلبة لثقافته المتميزة، لكونه عائدًا للتو من رحلة علاج في لبنان، مما أعطاه ميزة الاختلاط ببعض الأدباء والمثقفين هناك والاطلاع على الكثير من وسائل النشر، من الكتب والصحف والمجلات. وكان بطبيعته شغوفًا بالقراءة وطلب العلم. وأذكر أننا قررنا، نحن الطلبة، إصدار جريدتين، مما كان يطلق عليها « جريدة الحائط «، لكونها تلصق صفحاتها على حائط المدرسة. وبمجرد الصدفة، كنت أنا رئيس تحرير إحداها وعبد الرحمن رحمه الله رئيس تحرير الصحيفة الأخرى. فاخترنا، أنا وزملائي، اسم « الشروق « للجريدة التي كنا مسؤولين عن تحريرها. واختار عبد الرحمن لصحيفته اسم « الطليعة «. وهو في ما يظهر اسم لإحدى الصحف اللبنانية التي كان معجب بها عندما كان في رحلته العلاجية في لبنان. ولكن الاسم لم يعجب إدارة المدرسة، ربما لأنهم كانوا قد ربطوا الاسم بالطبيعة الثورية التي كانت الصحيفة اللبنانية تتبناها وتتميز بها. ولا أتذكر الاسم الآخر الذي هو اختاره لصحيفة الحائط بدلاً عن الطليعة. وكانت المنافسة الشريفة بين الصحيفتين قائمة على أشدها، من حيث قوة المواضيع وأهميتها.
ولكن المحزن أنه قبل نهاية السنة الدراسية صدر أمر غريب لم نكن نعلم آنذاك الجهة التي صدر منها التوجيه، يقضي بفصل زميلنا عبد الرحمن البطحي مع اثنين أو ثلاثة من الزملاء الآخرين، لأسباب مجهولة حتى هذا اليوم، رغم محاولاته رحمه الله الاتصال بمستوى عال في إدارة التعليم لمعرفة الأسباب. وكان من الممكن أن تحرم إنسان من شيء من أمور الحياة، إلا حرمانه من مواصلة الدراسة، وهو حق مشروع لكل مواطن. ولكن، رب ضارة نافعة. فهل لو كان عبد الرحمن قد واصل مسيرته الأكاديمية وحصل على أعلى الشهادات، سيحصل على ما وصل إليه من العلم والاحترام والإعجاب والتقدير الذي كان يتمتع به في آخر سنوات عمره؟ لقد كان بإمكانه مواصلة الدراسة النظامية، سواء داخل المملكة بطريقة ما أوخارجها. ويظهر أنه اختار التدريس بما كان لديه من مستوى متواضع من التعليم في العزيزية الابتدائية، ومن ثم العمل الإداري في المدرسة نفسها لما يقارب الثلاثين عامًا. وكان بحق يستحق بأن يلقب « بالبروفوسور « البطحي، وإن كنت متيقنًا أنه لو كان يعيش بيننا الآن فلن يقبل ذلك، تواضعًا منه رحمه الله. وقد أصبح نفسه مدرسة متنقلة في التأريخ والأنساب والعلوم الاجتماعية. وكانت تُشدُّ إلى مجلسه الرحال، فيقصده رواد العلم، ليس فقط من أبناء مدينته، بل من خارجها وأحيانًا من خارج المملكة، يستزيدون من معين ثقافته الواسعة. ولم يكن يبخل على الكبير ولا على الصغير، المتعلم ومتوسط التعليم. وكانت له فلسفة خاصة، وهي عدم حب الظهور. فهو لم يسمح لأحد من زواره بتسجيل مرئي أو نشر ما يمكن أن يفسر بحب الظهور، ويكتفي، إن كان ولا بد، بتسجيل صوتي.
وكان لي أمنية غالية، حالت المنية دون تحقيقها، ألا وهي زيارته وحضور مجلسه. فقد مضت عشرات السنين على آخر مرة قابلته فيها. وكان تهاونًا مني، وإلا لكنت شددت الرحال من الظهران إلى عنيزة للاجتماع به والاستمتاع بأحاديثه الشيقة والاستزادة من معين علمه، غفر الله لنا وله ولوالدينا أجمعين. وأتذكر آخر مقابلة معه، كان قد وجد أحد دفاتري المدرسية، يحتوي على « قصة « واقعية، بأسماء مستعارة، كنت قد كتبتها كواجب مدرسي في حصة الأدب. وطلب مني رحمه الله الاحتفاظ بها، فقلت له أن ذلك شرف لي.
وعلى الرغم من غزارة عطائه خلال جلساته اليومية مع زواره ومحبيه، إلا أن من أكبر إنجازاته قصيدته الشعرية التي بدأها ببيت مواطن عنيزة الأول، علي الخياط رحمه الله، الذي يقول فيه « هذي عنيزة ما نبيعَه بالزهيد ÷÷ لافرَّعَن البيض نحمي جالها «. ثم أكمل عبد الرحمن منظومته التي تزيد عن مائة وسبعين بيتًا. وثَّق فيها بطريقة وأسلوب شعري رزين تأريخ عنيزة قديمًا وحديثًا، وذكر بتفصيل جميل وبتسلسل بديع العوائل والأمراء الذين كانوا قد تولوا الحكم في عنيزة حتى وقتنا الحاضر. والقصيدة على وزن قصيدة الخياط المشهورة، وهي موجودة في الإنترنت،عن طريق وسائل البحث الإلكتروني، مثل قوقل.
وقد استهل الموضوع بعدة أبيات من نظمه، ومنها:
أتبَع ثرى الخياط وآطأ جِرته
ويستريح بخيمته واطلالها
واكتب أمور بعضها ما مَرِّته
قبله وبعده سجلوها أبطالها،
ومن ثم يبدأ بقصيدته الطويلة، مستعير أول بيت من قصيدة الخياط.
هذي عنيزة ما نبيعَه بالزهيد
لا فرَّعَن البيض نحمي جالها
هي ديرتي هي ديرة العز التليد
الله رفع قدرَه او عَز ارجالها
من يوم ابن عامر بدا غرس نضيد
بالضفة اليمنى او حط رحالها
ثم أكمل باقي القصيدة التأريخية الطويلة، وهي تعتبر ثروة وطنية ثمينة، تستحق أن تكتب بماء الذهب.
واليوم، وقد غادرنا إلى دار الحق، ألا يجب أن نخلد ذكراه بمشروع ثقافي أو تأريخي يليق بما قدمه لأمته ووطنه، ويكون مدعاة إلى ذكر سيرته العطرة والدعاء له إن شاء الله بالمغفرة؟ ونتمنى من الذين كانوا قريبين منه في حياته رحمه الله ومن محبيه ورواد مجلسه أن لا يبخلوا بما لديهم من المعلومات المكتوبة والمحفوظة عندما تدعو الحاجة للاستعانة بها، وجزاهم الله عنا وعنه كل خير.
- عثمان الخويطر
Ohk66@yahoo.com