هل اختيار الكفاءات المناسبة للمواقع القيادية، أو حتى وضع الشخص الكفء في مكانه المناسب من مهام الأشخاص الذين يقع عليهم الاختيار، أم من واجبات من توكل إليهم وظيفة الاختيار والتعيين أو الترشيح لتلك المواقع؟ هي بالتأكيد قضية جدلية، وفي جانب منها فلسفية؛ تتعلق بمبادئ متعددة تتوزع بين قدرات أصحاب القرار على النظر في أبعاد ما يتولون اتخاذ القرار فيه، وإحساسهم بالمسؤولية فيما قد يكون الإخفاق فيه مفسداً للعمل ولسمعة متخذ القرار نفسه؛ لكنها أيضاً مبادئ متصلة بإعطاء الناس حقوقهم العينية والمعنوية، وامتلاكهم الفرص المتساوية مع من يماثلونهم في الكفاءة والشروط اللازمة.
غير أن هذه القضية أصبحت في الآونة الأخيرة مثار جدل، حتى في عناصرها المبدئية، وليس في خلفياتها الفلسفية. إذ بدأت تنتشر ثقافة لدى بعض الفئات في المجتمعات العربية المعاصرة، مفادها أن الشخص مسؤول عن التسويق لنفسه، وأنه بقدر ما يقدم ذاته للآخرين يكون مدى الاقتناع بكفاءته، وكذلك مدى أحقيته فيما يمكن أن يصل إليه من رقي وظيفي، أو حصوله على فرصة متميزة دون غيره. وإذا كان الجزء الأول من هذه النتائج في الواقع المعاصر (ارتباط تسويق الذات باقتناع الآخرين بالكفاءة) يدل -من وجهة نظري- على فشل كبير لصاحب القرار الذي يعتمد على المرافعات اللفظية بدلاً من الفراسة في معرفة ما يحتاج إليه الموقع القيادي أو شروط الوظيفة؛ فإن الجزء الآخر منها (اعتماد أحقية المرء في مكتسباته الوظيفية على الادعاءات الذاتية) لهو دليل على ضعف معايير الاختيار، وانتشار الانتهازية والتركيز على المحسوبيات وغير ذلك من الأوضاع التي تؤدي إلى تردي الأحوال.
يقول أحدهم بعد أن اكتشف أن من اختيروا لتلك المواقع أقل كفاءة بمراحل من الشخص الذي يجري معه الحوار: لماذا تم اختيار هؤلاء، وهم غير جديرين بهذا الموقع، بينما تجاهلك أصحاب القرار في مفارقة منطقية؟ ثم ينطلق من تساؤله الإنكاري إلى توجيه اللوم إلى الشخص الذي وقع التمييز ضده، بأنك شخص لا تعرف كيف تسوّق لنفسك!
عجباً، هل أصبح الظلم داعياً إلى اتهام المظلوم بالتقصير، وعدم لوم الظالم أو الفاشل في اتخاذ القرار؟ هكذا إذا هي تصنيف القيم في منظومة الأخلاق لدى العرب في العصر الحديث.. للقوي العذر في كل ما يبدر منه من هنات وأخطاء تكون تبريراتها جاهزة، وللضعيف اللوم لأنه لم يرفع الظلم عن نفسه، ولم يسع إلى جعل القوي عادلاً ومنصفاً في قراراته وأفعاله.
بل أخطر من ذلك أن عموم الناس أصبحت تورد الحجج التي تدعم صحة رأي تبناه صاحب القرار أو أصحاب النفوذ في مؤسسة معينة، دون الاقتناع بتلك الحجج، أو بما تؤدي إليه من نتائج، أو حتى بالاتساق بينها وبين ما يتداولونه من مبادئ مخالفة لتلك المسارات. وإذا تولت المؤسسات مجموعة أخرى، تحول أولئك الانتهازيون إلى تبني آراء المجموعة الجديدة، حتى وإن كانت تتناقض مع أسس ما كانوا يبجلونه بالأمس. وما يحز في نفوس أصحاب الاستقامة هو عدم وجود ردود الأفعال المتزنة والمتسمة بالعدالة في الحكم على الأشياء، واتخاذ المواقف المتعددة منها؛ بل يتوقف الأمر غالباً على المعرفة بالفئة المحيطة بهذا الشيء، أو من صدرت عنه الأمور المطلوب إبداء الرأي بشأنها. أما الشعور بالمسؤولية عن الشأن العام، وضرورة دعم التوجهات التي يرى المرء أنها من الصواب، حتى لو كان فيها من العنت وإغضاب الانتهازيين، أو الظهور بمظهر التمرد والابتعاد عن النسق المعتاد؛ فهو تقريباً من الأمور اللامفكر فيها. وهذا هو ما يجعل أصحاب الحق بحاجة إلى أن يسوّقوا لأنفسهم!
- الرياض