تغير كل العالم خلال المائتي سنة الماضية لكن العواطف البشرية لم تتبدل لا قبل ولن تتبدل بعد ولن يتبدل التوق والحب والشغف بالمجهول.
والذين يقرؤون رواية الكاتبة الأمريكية «إيلا شيفر ثاير» Ella Cheever Thayer « الحب عبر أعمدة البرق « والتي كتبت في العام 1880 سيظنون أنها كتبت الآن لولا مفردات البرقيات والإشارات «التلغراف» التي لم تعد.لقد كانت رواية الحب الافتراضي الأولى والتي سبقت الإنترنت بمئة عام أو أكثر.
العاشقان أو طرفاً العلاقة «ناتي « و» كليم « كانا عاملين في مركزي تلغراف (برقيات) يفصل بينهما مئة كيلومتر.. ولقد كانت مسافة بعيدة حينئذ.. وكانا يرسلان البرقيات للناس عبر الشيفرة أو ما كان يسمى «المورس كود».
ونتيجة خصام صغير أثناء إرسال واستقبال إحدى البرقيات بين المحطتين نشأ بينهما حوار ثم تبع ذلك مفارقات كثيرة تحولت إلى استلطاف ثم حب افتراضي بين طرفين لا يعرف أحدهما عن الآخر شيئا وهل هو حقا رجل أو امرأة..ومن قال إن العالم تغير منذ مئة سنة.؟
« بالتأكيد تخيلني كما تشاء.ليس لدي مانع طالما أننا لن نلتقي وجها لوجه. أعرف أن فرصة هذا الأمر ضعيفة للغاية وإلا لعرفت وقتها الفرق بين جذور الواقع ومثالية الخيال. هكذا قالت كليم لعاشقها الافتراضي وهو يقولها أكاد أراك بأم عيني.
لكنهما يلتقيان وهنا تحدث المفارقة فهما ما عادا قادرين إلا على العيش والحب في العالم المتخيل عالم الشرط والحروف كما كان يسمى حينها عالم الافتراض.
هل تغير شيء منذ ذلك العهد..منذ ما يقرب من قرن ونصف..؟ ليس كثيراً....ليس كثيرا منذ أن قالت في روايتها : يخيل لي أن الحديث مع شخص منزو ومجهول أمر رومانسي وخلاب. إن الأشياء التي يلفها الغموض تثير في النفس أحاسيس لطيفة.
التغير الذي حدث حقاً هو تحقيق نبوءتها المذهلة عندما حلمت أو تخيلت قبل قرن ونصف تقريبا وعندما قالت «ومن يدري ربما استنبط أحد العباقرة شيئا خاصا بالمحبين مثلاً جهاز يوضع في جيوبهم يمكنهم مع بعد المسافة وتوقد الشوق من سماع أصواتهم. سيكون كل ما عليهم فعله هو إخراج هذا الجهاز ووضعه على آذانهم وتمضية وقت سعيد! آه كم أغبط هؤلاء المحبين الذين سيعيشون في المستقبل.»
محبو المستقبل هم نحن الآن والجهاز العجيب هو الهاتف المحمول الذي يضيء في جيوبنا ولكن دون حب.
ولأن كانت الآنسة «كليم» بطلة الرواية ومع قلة قليلة كانت تمتلك رفاهية التخاطب مع شخص واحد منزو ومجهول في ذلك العهد ورغم تحقق نبوءتها باختراع جهاز المحبين إلا محنتها كانت أقل.. فالخيار واحد والافتراض قليل جدا لكن محنة المحبين اليوم أكبر ولم تحل بهذا الاختراع العجيب بل تشعبت والمحنة الكبرى التي يعانيها جيل اليوم هو هذه الوفرة المفرطة في أدوات التواصل وفي خلق هذا الحب الافتراضي المدمر والمتبدل والمتجدد كل يوم..الحب المتخيل الذي يصطفي فيه المحب من فضاء الآخر ما يشاء وينزل عليه من (الخيال) المفتقد في حياته ما يشاء ويرى فيه الدفء والعوض والحضور المكتمل ويهدمان (العاشقين الافتراضين) في لحظة واحدة كل الحواجز وحتى المحرم منها يحلقان في سماوات رفعاً سقفها بعيداً.. بعيداً جداً.
ثم يأتي التدمير عندما يصتدم الرجل أو المرأة بواقع الحياة حيث لا أحلام ولا أكاذيب ترمم الشقوق وحيث الحياة هي الحياة. غير أنهما (المرأة والرجل) يعاودان كل يوم تجربة الافتراض تلك مؤملين كسر رتابة الحياة ومنتظرين معجزة قد تأتي ولن تأتي. وكل ما امتلكنا وامتلكوا هو الخيبات. خيبات تتجدد كل يوم.
- عمرو العمري