محمد المنيف
عندما أستعيد شريط متابعتي لمسيرة الفنون التشكيلية في الوطن العربي عبر الأربعين عاماً أكتشف أنها تسير على إيقاع هادئ متوازن ومدروس. يستطيع أي متابع أن يرصد مراحل التبدل والتغير نحو تطور فناني كل دولة، كما يمكنه اكتشاف مستوى ثقافة كل مرحلة أو جيل، كما سيجد الكثير من التجارب التي تبيّن كيفية انتقال الفنان من مرحلة إلى أخرى، كما سيشاهد في المواضيع ما يدل على هوية المصدر وخصوصيته، ومن ذلك ما نراه من مشاهد البيئة والمجتمع.. عادات وتقاليد أو أحداث وصولاً إلى مراحل تطوُّر الأساليب وتنوُّع التخصصات أو التوجهات دون خروج عن تلك الهوية أو الانتماء، بينما نرى أن المنتج التشكيلي في محيطنا المحلي لا يحمل أي صلة أو رابط أو تأصيل أو انتماء..
والواقع أن هناك أسباباً عدة لهذا التزعزع في مسار الرسم البياني.. منها عدم وجود أكاديميات للفنون الجميلة التي تمكّن الدارس من معرفة كيفية المحافظة على مراحل تطوره التقني، وضعف مستوى وعي مَنْ مارس الفنون التشكيلية بكيفية الإمساك بسبل مسار التجارب. أما الأكثر تأثيراً فهو افتقار الساحة للناقد الصريح، وحضور النقد أو الكتابة الانطباعية التي يغلب عليها المجاملة؛ ما أتاح التبدل والتغيُّر والخروج على الخط الذي كان يفترض وجوده لتشكيل شخصية الفن التشكيلي المحلي المتنوع في مصادره البصرية نتيجة تعدُّد صور الجمال والعادات والتقاليد في كل منطقة؛ ما أدى إلى سرعة ركوب الأجيال الجديدة موجة التأثر والتقليد الأعمى لكل ما يطرح في العالم من تجارب يعتمد فيها منفذوها على طمس الهوية أو المرجع البصري، دون كنترول يعيد الساحة لمسارها الصحيح؛ ما أدى إلى بعثرة وتشتت بوصلة الأساليب.. ونتج من ذلك فن لا يعرف مصدره، من اندفاع لمدارس غربية وغوص في مفاهيمية دُسَّ فيها السم في الدسم، جلبها مدَّعو الفن هروباً من فشلهم وفقدهم القدرات الحقيقية التي يبنى عليها العمل الفني.. ولن يكتشف ما حدث للساحة من سوء في بناء جسدها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه؛ فلا أساليب ولا تجارب متواصلة ولا نتائج مقنعة.. حتى غالبية من يشار لهم بالريادة أو التأسيس لو عدنا لمسار تجاربهم لوجدنا العجب العجاب.
وقد لا يعي هذا التزعزع إلا الراصدون لكل ما طرأ ويطرأ على الساحة منذ إنشائها وصولاً إلى ما هي عليه الآن من انفلات يصعب فيه إعادة ترتيبها إلا بقرارات رسمية توقف هذا العبث.