د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
من قوانين البقاء داخل محيط الجماعة، القول الحسن، ودائماً ما يتربّع ويبقى في صناديق الذاكرة، ويكون على أُهبة الاستعداد للنداءات كشاهد من الشهود العدول، وقد يكون القول بهجة وربما يكون غيمة ممطرة فوق بيداء عطشى، ورصفاً متقناً للخطاب الإنساني الذي مضى زمنه ولكنه باقٍ بين حنايا الوجدان وعروق الذاكرة، وفي مسافات أخرى يكون القول جرحاً يحتاج إلى ضماد دوري من أمهر المضمّدين، حيث ذاك يذكّر بالانكفاءات التي حدثت في محيط وزمن ما.
وفي محيط الحياة يستحق ابن آدم الذي كرّمه اللطيف الخبير: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70) سورة الإسراء، يستحق أن يتنفس هواء الكلمة النديّة، يقول نبينا محمد الذي وصفه خالق الخلق بأنه على خلق عظيم (الكلمة الطيبة صدقة)، وفي تراث العرب الكلمة منحة ثمينة تُوازي الهبات من الأموال والأنعام يقول شاعرهم الحكيم المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم تُسعد الحالُ
والقول الحسن من الحِكم السديدة التي تُنسب إلى صاحبها:
قل طيباً أو فالسكوت مفضل
إن الحكيم إذا تكلّم سدّدا
ويتجلّى في وصف الله سبحانه وتعالى للكلمة الطيبة ما تنقشع أمامه مختلف الأقنعة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} سورة إبراهيم (24-25).
والحياة مضمار طويل، والناس في منعطفاتها سائرون، وفي أدق تفاصيل مخططاتهم يشعل القول الحسن دروبهم، ودائماً ما يخشون أن يباغتهم التصحّر بسوء القول، وقد أبان الحكيم الخبير حكمه على ذلك، قال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} (148) سورة النساء.
ونلتقي بالكلمة الطيبة فتتعطّر فضاءات المكان، وترتسم وشائج الحياة، ويصطفي خالقنا أقوالنا الطيبة، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (10) سورة فاطر.
كما اصطفى عزّ وجل طيب القول وجعله من صفات المقام الحسن في الجنة، قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا*إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} سورة الواقعة (25-26).
والحقيقة التي لا يُختلف عليها أن منابر القول الحسن رحبة ذات مسارات مختلفة، يتفيأ ظلالها الشأن الثقافي والأدبي والإرشادي، وكل شأن تواصلي من خلال الكلمة هو ترطيب وتهدئة، وعندما يكون القول زلزلة غير منتظمة، تتوقف عند كل مقطع لتبحث عن الكلمة التي تمنح القول زخمه وهوله، وعند ذاك هو بث يرعب الأوصال.
ولأن فضاءات اليوم لا يحسن جل أهلها أدب الكلام، إلا من رحمَ ربي، ففي محيط الأسر الصغيرة مثلاً تمارس الدلالات المتربصة على الأبناء مما يؤثر على إيقاد شموع المكان، وانطفاء القدرات الصغيرة النامية، وتلاشي وميض العقول ربما لكثرة الكلام المرّ.
فلنتأمل ما يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (ما ندمت على سكوتي مرة، لكني ندمت على الكلام مراراً) كيف وعمر خليفة المسلمين وثالث الخلفاء الراشدين وأحد المبشّرين بالجنة!!؟
ولاستجلاب القول الحسن في بيئات الكلام، ومواقع طرحه، لا بد من تعظيم الإيجابيات في ذلك الفضاء والحد من الرؤى السلبية التي تفضي إلى الكلمة النابية، ولأن لقاءات الناس فيما بينهم كمثل اللوحات، فالعاقل من يراقبها بعين العقل، ويقترب منها أكثر فأكثر، ولا بد من الرؤية من عدة زوايا ومسافات تتيح المعرفة الحقيقية لمن هو أمامنا، وعند ذلك يجلب جمال اللون حلو الحديث والرفق في الموقف.