د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أدمى القُديح حرابَ غِرّ جاهل
ملأ الكِذابُ إيهابهُ والعار
جريمة الفتى الغِرّ في مسجد الإمام علي في بلدة القُديح يوم الجمعة قبل الماضية؛ لم تكن سهامها لذلك المكان، أو لمن يقطنونه من أبناء الوطن الطاهر فحسب، إنما هي فعل تزلزل له وجدان الأمة؛ وغيّب دويّ الانفجار بين الأشلاء والدم صوت الحق في يوم جمعة المسلمين،
قال تعالي: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} البقرة 114.
والراكعون الساجدون تناثرت
أشلاؤهم أو عندها أوتارُ؟
وعلى مدى تاريخ بلادنا الأشم، عبثاً حاولت أوكار الإرهاب أن تنال من حياضنا ، وضلّت خارطتهم طريقها، وكان هناك حدس في أعماقهم انطفأت أمانيه منذ الأزل، ففي عام 1400 هجرية، كان اقتحام الحرم المكي الشريف من زمرة من المتطرفين ، لكن بلاد الحرمين ذات التوالي من الأمجاد، أسقطت صناعتهم وصنيعهم، وباغتتهم حياتهم ؛ ونهشتهم وأعادتهم إلى رحم الأرض مدحورين، ويا لبؤس المآل والمصير.
يا ويحهم لم يعرفوا أنّ الحمى
طود وأنّ حماته أحرار
تتحطم الرغباتُ دون سفوحه
ويذوب دون مرامه الجبّار
ثم إنّ العقول الموغلة في الإثم والعدوان، ومن يقف وراءها من أيدٍ خفية لا تتوارى عن الحجاب، تدحرجت بالجماجم الفارغة، نحو اختراق أمن فضاءات من بلادنا، ولكل إرهاب أبواب وحكايات؛ حصادها أرواح بريئة قضت نحبها غدراً وعدواناً، وما التفجير الإرهابي في مسجد الإمام علي في قرية القُديح في شرقنا الغالي إلا شكل مظلم من أشكالها؛ كان له في الخطاب الوطني ميزان الجريمة؛ وأنها هرم الفتنة , وقمة التطرف، حيث قُتل الآمنون في بيت من بيوت الله.
وعند ذاك لمع اسم القديح في وجدان الوطن والمواطن، وغطّى ضوءه حندس المصاب الجلل، فكانت وشيجة لحمة وطنية في أعماق الوجدان، نطقها كل لسان.
وبينما كانت القديح تغطس في أوار الحزن على شهدائها، كان للقيادة حضور مهيب، ينسج مسؤولية الحكم، وشموخ الحاكم، فقد وجّه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز برقية لسمو ولي العهد وزير الداخلية مضمونها: ( إنّ كل مشارك أو مخطط أو داعم أو متعاون أو متعاطف مع هذه الجريمة البشعة سيكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة وسوف ينال عقابه الذي يستحقه)، كما أكد - حفظه الله - أنّ جهود المملكة لن تتوقف يوماً عن محاربة الفكر الضال ومواجهة الإرهابيين والقضاء على بؤرهم.
نعم هذه بلادنا ؛ وهذا هو قائدها الذي آلمته الفاجعة، وأنكرها وتوعّد باجتثاث من يقف خلفها.
فتواشجت صلة المحبة بينهم
فهمُ لصالح أمرهم أنصارُ
في وطننا الأشم، حاضن المقدسات، الذي توحّد بعزيمة الغُرّ الميامين، عندما قادوا كافة القبائل والطوائف من مختلف المناطق، فبنوا كياناً أشرقت له الحياة، حتى أصبح حقيقة ذات أبعاد حضارية، تُرى رأي العين.
لم يبنه عبد العزيز على شفا
مترنحٍ يلوي به الإعصارُ
رسخت قواعُده وصان بناءه
غُلب إذا داناه غِرّ ثاروا
فلا بد أن نبني الحصون ونقيم الأسوار حتى لا تسرق الطائفية وحدتنا، فالاعتداء الإرهابي؛ هو مصاب وطن بحواضره وبواديه، فالأمن يعادل الحياة، ولأنّ الجميع يعشقون الحياة في روابي الوطن لابد؛0 أن نتمثل القدوة ونسقيها مواقعنا، فالمسلمون الأوائل لم يرفعوا سلاحهم قط في وجه أعزل ومن فعل ذلك حُسب عليه عار وعلى قومه وقبيلته، كما أنّ قيمة المكان وتاريخه العريق المكتنز بالمثل العليا، يجعلنا نزيد من حدة الاستنكار تجاه الفعل المارق الذي شوّه جماله ووجدانه.
وفي ذلك اليوم الأليم احترقت الأوراق في لهيب الأوكار المعتدية، وأكلتْ الشمس ما تحت الأقدام، وما فوق الرؤوس، ذاك هو الحيز الذي صُنعت فيه أدوات الجرم والإجرام بحق الأبرياء.
ومنذ ذلك الحدث أصبح الموقف الوطني يسعى إلى الوصول إلى إجابات محورية لأسئلة أكثر عمقاً، حيث إنّ مواطن القُديح هو مواطن هذه البلاد الطاهرة، وأنّ قيم الإسلام العليا تحتم احترام الإنسان في قالبه، فلسنا بحاجة إلى افتراض جدل أو نقاش حول ذلك الاحترام والتسامح والتآخي، فقد أطلقها نبي هذه الأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال « كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، التقوى هاهنا، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» رواه الترمذي.
وحتماً فإنّ الوشائج في الشعور الوطني تجاه الاعتداء الآثم لا سبيل إلى تفسيره سوى أنّه رحلة أخرى وأخرى إلى واقع يقودنا إلى محطات سفر مشتركة البوابات؛ نحو التآزر والتراحم والتلاحم، وفي كل نقاط الوطن الغالي في القُديح ؛ وفي كنوزنا الأخرى لابدّ أن نتجاوز ما يحيط بنا في ذات المكان ؛ وأنّ نسعى إلى تمتين اللحمة الوطنية ؛ وأن لا يكون هناك جدل حول مقاصد المواطنة وأهدافها؛ وأنّ الأحداث المروعة وإن حدثت في فضاء من فضاءات الوطن لابد أن تكون مصنعاً لمراكب العبور نحو وطن آمن بإذن الله.
إنّ ثنائية الوطن وأمن الوطن هي ملحمتنا الحاضرة التي نشدو بها وتمثل اتّحادنا وتآزرنا في وطن الشموخ إلى الأبد.
وتأبى القُديح أن يُضام حمانا..