د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
من بواعث المقال قفزات النهاية في منشآت التعليم العام، والمرايا الكبيرة أو الصغيرة التي تعكس حكايات حفلات التخريج في هذا الوقت من كل عام، وما يتوالى من الأحاديث والمشاهد عن تلك الحفلات حتى أصبحت إحساسًا بالديمومة ووسمًا في فضاءات التعليم، وفيض المرحلة الثانوية هو الغيض الذي افتتحُ به شُرفات المقال؛ تلك الحفلات يتبنّاها صوت الطالبات الذي يأتي من ذواتهن في حضور جليل تظل عقولهن ترقبه منذ بداية الزرع حتى يوم حصاد المرحلة؛ وإذا ما أتى فإن ذاك الاحتفال يعتبر في العرف المجتمعي نظامًا مشروعًا خاصًا؛ وإن كان ينطلق صوته من محاضن التربية
ومن مقيمي أوتادها؛ وهي وإن كانت فرحة تستوقفها عربات الإتمام، ويدثّرها إذعان أولياء الأمور، إلا أنها أصبحت ذات أصوات تقصر عن أهداف التربية، وتمتزج بها لغة المفروض، وما ينبغي فعله حيث (غزية) ‹إن غوت لحقناها، ولبست تلك التظاهرات الاحتفالية وتلبّست رداءً باذخًا وصل إلى استيطان الفنادق ذات الخمس نجوم، وقصور الأفراح الفارهة، وأصبحت أصداؤها الفارغة تغشى الناس، وكل طالبة تقبل تبحثُ عن متكأ حول نافورة التخريج المرتقب، وتسعى إلى أن تكون إحدى أحاديثه الملونة؛ ولقد اختلف الناس في تفسير أسبابها؛ هل هي مكافأة إنجاز، أو فرحة انتقال؛ فإن كانت الأولى فإن ما يعقب تلك الأزمنة هو تصفيات نهائية للإنجاز، وهي ما تُسمى مجازًا بالامتحانات حيث يمتحن فيها العقل والوجدان، كما يعقبها أيضًا زائر ثقيل استضافه عجز مخرجاتنا وأحاط بأعناقنا حتى لا ندفع ببضاعة مزجاة؛ ذلك الزائر هو قياس التعليم العالي لقدرات الطالبات وتحصيلهن.
كل تلك الطقوس من القنص والاقتناص تُقام قبلها الأفراح والليالي الملاح، وقد لا يكون ذلك في جو مرتخ بالألفة، وقد تتلاقى الأيدي دون مؤشر قناعة بهذا الفعل أو ذاك، أما إذا كان فرحة انتقال!! فلماذا يُقام خارج منشآت التعليم وترافقه هالة التعليم، وينسب لتلك المنشآت ويوصف ما يبذل فيه وله بأنه نواتج غرس التعليم وثماره، وإلا فأين من تلك التظاهرات عبق المناخ التربوي المكتنز بالمعرفة ودهشة الاكتشاف والتفرّد في النواتج، والإبداع في المنتجات؟!! ثم بعد ذلك نتساءل لماذا غذّت المنشآت التعليمية ثقافة المجتمع حول حتمية الاحتفاء خارج بلاطها لكل دفعة انتهت من مرحلة ورحلة؛ ومع أن هناك أزمنة ومساحات قضاها ذوو الشأن في صناعة الأسوار (التعاميم) الموجهة لتنظيم ذلك، إلا أنهم لم ينفقوا دقائق من أوقاتهم لمحاسبة من يقفز على تلك الأسوار، ويخترق حواجز التربية.
ولمّا أن تلك التظاهرات الاحتفالية ما تفتأ صاعدة عامًا بعد عام؛ فيلزم القائمون على الشأن التربوي أن يعيدوا تشكيل الرؤية التربوية التي أحاطوا بها الموضوع ذاته في كل عام التي لم تحد من التباهي والتكاليف الباهضة التي طفح بها بوح أولياء الأمور ورسموا صور البذخ وأرقامه، وفي بعض الثنيّات تكون نهاية العام الدراسي شبحًا لا تستطيع بعض الأسر طرده.
كما أن أسلوب الاحتفاء وأحلام الطالبات التوّاقة لا يعدو إلا أن يكون ليلة محتشدة بالصور والألوان والألحان؛ نعم هي نهاية لم تتضح تفاصيلها ولم تظهر أهدافها، بل بقيت حديث الناس وكأنها من طقوس النجاح ولوازمه، وفي ذلك لا بد أن تكون البداية نفحة تحفيز ودافعية لوجدان أولئك الطالبات المحتفيات بأنفسهن، وصياغة أُطر العمل الهادف ذي النتائج النامية التي تشرق لها العقول والأبصار، ويمتد أثرها باسقًا يروي ويشفي، ويكون حصادها إنجازًا يحسب لأولئك الطالبات يستحقون عليه أوسمة الاستحقاق داخل محيط المنشأة التعليمية ومنسوباتها الذين شهدوا غراس الزرع وحصاده، وأن ترفع الأشرعة لأولياء الأمور من الأمهات ليشهدن منافع بناتهن ويشاركن في الاحتفاء بالإنجاز دونما كسر لأطواق احترام دور العلم، وأن تكون مصنعًا للشكر مثلما هي مصنع للوصول إليه؛ ويحسُن بالمنشآت التعليمية والمشرفين عليها أن تقرّ الاحتفاء بإنجازات الطالبات ضمن برامجها إلى أن يتمثلنها نزهة متصلة بقوانين المنشأة التعليمية، ونطاقات المنهج ووحداته، ومن الجميل أنه لم يخل المجتمع التربوي المدرسي من بعض النماذج المضيئة لتي وجهت طالباتها فيما يحقق النفع والفائدة؛ فلعل نوافذهم ترسل شموسها قال تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام 90.