أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في مُنْتَصَفِ الليلة التي صبيحتُها يوم الخميس الْمُوافِق 19-10-1422 هـ كنتُ في (الشُّبَيْكَة)؛ وهي مِن براري جنوب تونس الخضراء؛ وهي قطعةٌ فسيحةٌ خصيبةٌ يرتادُها أهل الصيد (الْقَنْصِ) في الشتاء قُبَيْلَ (الْمِربَعانية)؛ وهي في مِصْرَ باسم (طابَة).. تبدأ في 24 / أغَسْطُسَ، وتنتهي في 14 يناير؛ فهي ثلاثة أنْجُم..
وتظَلُّ تلك الرقعةُ مرتاداً لأهل الصيد مُدَّة المربعانية والعقارب، وبينهما الشباطان (شباط الأول، وشباط الثاني؛ فهما نجمان مُدَّتهما ستةٌ وعشرونَ يوماً).. والعقاربُ ثلاثةُ أنْجُمٍ؛ فمُدَّتُها تِسْعَةٌ وثلاثون يوماً؛ والعامَّة تصف العقربَ الأولى بـ (سِمّْ)، والثانية بـ (دمّْ)، والثالثة بـ (دِسَمْ)؛ وهنَّ في الفصحى (سَعْدٌ الذابحُ)، تَبْدَأُ الأولى في (10-فبراير)، وتبدأ الثانية في 23 فبراير؛ وهي (سَعْدُ بُلَعٍ)، وتبدأ الثالثة في (10-مارس)، وهي (سَعْدُ السُّعُوْدِ).. وَقَلَّ منْ ينتظرُ العقرب الثالثة؛ لأنه ربما سَخُنُ الجوُّ فيتراخى الطيرُ (الصَّقْر)، والعامَّةُ لا تكاد تَسْتَعْمِلُ اسم (الصَّقْرِ)؛ وإنما يستعملون اسمَ (الطير).. والقُنَّاصُ يستَبْشِرون بطلوعِ (سُهيل)، ويَسْتَعِدُّون للقنص منذ طلوعِه وقد فرغوا من تدريب طُيورهم؛ فإن وجدوا بُرودَةً في الجوِّ بَدَأوا في الصيد، وأخذوا يُدَرِّبون بعضَ الطيورِ الْمُقَرْنَسةِ في البيوت.. وما يُسَمُّونه (صَقْراً) هو أنثى الطيور؛ فهذه الأنثى هي التي تصيد.. والذكر لا يَصْلُحُ إلا للسَّفاد؛ ويسمُّونه (شَبُّوطَاً)؛ فَلَيْستْ الأُنثى كالذكر الشَّبُّوطُ، وليست الأُنْثى كالدَّبُّور ذكر النَّحْلِ، وليست النخلَةُ كالْفَحَّال ذكر النخلِ، وليستْ الَّلبوةُ كَالأسد الذكرِ.. ووصْفُ المرأةِ باللَّبْوَةُ أشْنَعُ القذْف في مِصْرَ تُراق فيه الدِّماءِ إلَّا بـ (حَقِّ عرب)؛ فسبحانَ مَن مَيَّز بعض إناث الأحياء على الفريقين مِن البشر؛ فليسَ الذكر في البشر كالأنثى؛ فَلْتَفْرح ذواتُ (نونِ النسوةِ بهذه الظاهرة)!!.
قال أبو عبدالرحمن: وفي الحديث شُؤُونٌ ذاتُ شجونٍ.. وَ قَلَّ مِن أهل الصيد مَنْ ينتظر العقربَ الثالثة؛ لأنه يَعْرِضُ في كثيرٍ من الأعوام سخونةُ الجوِّ؛ ورُبَّما حَرارَتُهُ؛ فيتراخى الطير ويَضْعُف ويلهثُ عن (الْهَدَدِ).. وبعض سكان (الْوَبَرِ) حلَّ عنده ضيوفٌ ذوو جاه، ووفد عليه أيضاً مُوَظَّفونَ مُنْتَدَبون في مُهِمَّةٍ رسمية مِن غير دعوة، وأرادَ صاحبُ (الوبر) أن يُرْضِيَ الطرفين؛ فقال: ((الله يْحَيِّيْكم اللِّيْ مَعْزومْ [أيْ الْمَدْعُوُّ]، والِّلِي جايٍ (هَدَدْ)))!!.
قال أبو عبدالرحمن: نحن في فرجٍ بعد كربٍ بفضل الله وشُكْرِه منذ (عاصفةُ الحزمِ)؛ فنشكر نعمة ربِّنا؛ فندعُوه ونشكُرُهُ، ونَنْشُرُ فَرْحتَنا بالمباحِ من القولِ، وبعضِ سلوكِ بعضِ البشر؛ وفي كلٍّ عظةٌ وعبرة.. ومَن أسْرَفَ مِن أهل الوبر فذبح ذبيحتين فوقَ الحاجة، ودعا الضيوفَ المعزومين على ذبيحة غيرِ الذبيحة الثانية: فعمله غير مشكور.. ثُمَّ دعا الفريق الثاني على ذبيحة ثانية في نفس الوقت بصفةِ (الهددِ) فَقَدْ أساء.. ومن رحَّبَ بكلِّ الطَّرَفين على أنه مَدْعُوٍّ: فذلك غاية النُّبْلِ والكرم.. والكرماء العُقلاء يُقَدِّمون الجمعَ الكثير على الطعامِ الْقليل الميسور، ويقول كلمةً تساوي الذهب والفضة؛ وهي (حَبَّيناكُمْ، وْكثَّرناكمْ).. ألا ما أَجْمَلَها مِن كلمةٍ، وما أنبلها من نفسٍ كريمة!!. ومَنْ ينتظر نهايةَ العقرب الثالثة؛ فلأنه يحدث في بعض الأعوام بقاءُ البردِ غيرِ الضارِّ.
قال أبو عبدالرحمن: مِن تداعي الْمَعاني: أنَّ الْحَدِيثَ بالحديثِ يُذْكَرُ؛ فقد مَرَّ في حياتي ما هو أشْنَعُ مِن ذلك الْمَوْقف؛ ذلك أنَّني قدمتُ إلى مدينة أهْلُها ذوو فضلٍ وكرمٍ وسماحةِ؛ فلمَّا حَلَلْتُ في المطارِ وجدتُ رجلاً سَرِياً أخلاقه كالنَّدَى العَذْب، والنسيم العليل.. كان زميلاً لي لَمَّا كنتُ مديراً للإدارة القانونية بوزارة الشؤون البلدية والقروية، ثم انتقل هو مسؤولاً كبيراً في إحدى الوزارات خارج الرياض بوظيفة وكيل وزارة - وكان للوكالةِ يومَها شأنٌ أكبَرُ من شأنها الآن -، وأخبرني أنه مَدْعُوٌّ للغداءِ عند زميلٍ لنا معاً بوزارة البلديات، وأنه أخبره بِمَجيئِيْ؛ ففرح بذلك، وَرَحَّبَ بي لذلك الغداء؛ فلما طرقنا الباب فتحه، وقال لزميلي الوكيل - وهو (أي الداعي)، وكان تحت إدارته -: الآن يُؤَذِّنُ للعصر، وقد حبستُ المدعُوِّينَ، وأننا سنصلي في بيته مَعَهم؛ فقال الوكيل: هذه أبْرَكُ ساعة، وعلى الرُّغْمِ من سرعتي في قيادةِ السيارة؛ فإنَّ المطارَ كما تعلم بعيد.. فقال الداعي: كان جئت أنت وَحْدَكَ مُبَكِّراً، وكان ينفخُ كَنُفَاخِ الضبِّ، وَمَدَّ لي طرفَ أُصْبَعِه السبابة؛ ولم تكن في حينها مُسبِّحة، وَوَجَّهَ القولَ إليَّ: (كانْ اَنتْ ماجِيْتنا)؛ وكاف (كان) هي الكافُ الفارسية (گ) مَخْرَجُها بين الكاف والقاف والسين والزاي؛ فكففتُ يدي عن استقبال طَرَف أُصْبَعِه، واحمَّر وجهي، وضاق نَفَسَي لا أرى ما حولي، وأردتُ الانصرافَ إلى بيت صديقي الوكيل؛ فَجَرَّني برفق إلى أنْ كنتُ بينهما، وقال لي مُسْمِعاً الداعي: أنت تعلمُ عقلية هذا، وأنه (ثَوْرٌ مُعَمْعَم)، وأنا الذي دعوتك إليه؛ فإن صَمَّمْتَ على العودة إلى البيت: فلا بدَّ أن أعود معك في سيارتي، ولَنْ أُكَلِّمه مدى عمري، فارتاح خاطري قليلاً؛ إذْ صارحَ الداعي بأنني لستُ (ضَيْفَناً)، وأنه (أي الداعي): هو الذي رَحَّب بي، لَمَّا أخبره بمجيئي، وأنه فرِح بذلك.. فدخلنا وَنُفاخ الضَّبِّ يلازمه؛ فوجدنا القوم قد صَفُّوا للصلاة، فأدركنا الركعة الأولى، ووجدنا المائدَةَ ذبيحةً جزْلَة على صحنين.. وبعد أن صَلَّينا، وتبادلنا السلامَ والترحيب، وجلسنا على المائدة: كنتُ في موضعٍ لا أُحْسَدُ عليه: إلا أنَّ القوم لا يعلمون أنني ضَيْفَنٌ.. وكان لونُ وجهي مُمْتَقِعاً، وقد عَوَّدتهم أن أكون حِدِّيث مجلس في المُنتديات.. وأَصِلُ إلى (اللَّمَمَ) ولا أتجاوزه؛ فاتذرت بأنني مُرْهَقٌ أغالبُ النعاس، وكانوا يتعاقبون على إمْدادي بلُحَيْماتٍ من الأضلاع ومن سُقاطِ البطن كالكبد والكرشِ ومِن الرأس، وأنا أنظر من أسْفَل نظَّارتي يميناً وأماماً وشمالاً؛ فإذا لحَظْتُ مِنْهُم غَفْلَةً واريتُ ما أَمَدُّوني به في الأرْز كأنني قد أكلْته، وقد لا حظ ذلك بعضُهم.. وكنتُ أتَعَلَّلُ بحبيباتٍ مِن الأرز، وأقْبِضُ الخنصر والبنصرَ والأوسط (والعامةُ تُسَمِّي الأخير بما أَسْتَحْيِي من ذِكْرِه، وأوَّله ميمٌ، وآخره صاد).. كأنَّ يدي مليئةٌ باللحم والعيش، وأتعلل بحبيباتٍ من العِنب واحدةً واحدة.. وبعد الغداء امْتَدَّتْ الجلسة إلى ما قُبِيْلَ غروب الشمس، وكان صاحبُ المائدة (الداعي) يلْصق بي، وهو أَرْفُعُهمْ بالصوت ضَحِكاً على ما يدور من مُنادمتي، ثم خرجنا؛ لنلْحق صلاةَ المغربِ في وقتها جماعةً بعد الاشتغالِ بشرطها مِن الطهارة؛ فأما صديقي الوكيل فقد بادر إلى فتح باب السيارة، واسْتوى على مَقْعَدِ مَنْ يقود السيارة، وأما الآخَرُ (الداعِي) فظل يمشي معي يُرَحِّبُ بي، وَيُذَكِّرني بعض النُّكتِ لَمَّا كُنَّا في وزارة الشؤون البلدية والقروية.. وكنت أرُدُّ على ترحيبه بقولي (لا أَنْعَم الله عليك، ولا خَلَفَ، ولا أخْلف يا مْقَطِّبْ بْعُوْرِهْ.. أما كان هذا الترحيبُ بين الْمَدْعُوِينَّ وعلى مَسْمَعٍ منهم بَدَلاً من نُفاخِ الضب)؟.. فلما وصلنا إلى باب السيارة ضرب أعْلَى ظهري بِكَفٍّ كأنه خُفُّ بعيرٍ نشيطٍ بازِلٍ وهو يقول: (اللهْ يهديكْ بَسّْ)، وكانتْ ضربَتُهُ مُؤْلمة؛ وما زال هذا الموقف مُؤْلماً لي إلى هذه اللحظة؛ فيا ألله يا أرحم الراحمين لا تجْعَلْنا في موقفٍ حَرِجٍ.
قال أبو عبدالرحمن: كنتُ أعددتُ للسَّبْتِيَّةِ في هذه الجريدة موضوعاً شديدَ الأهمِيَّة عن اختلاف الفقهاء، وأنَّ (الخروجُ عن عُهْدةِ الخلاف) لا يجوزُ مراعاتُه في كلِّ اختلاف.. ومادَّةُ هذا العنوان مَنْعُ قِلَّةٍ مِن الفقهاء مِن لَعْنِ الشيطانِ الرجيم، وقد شَذُّوا عن النصوص الصريحة الصحيحة على أنَّ لَعْنَ الشيطان من شريعة الله؛ فهو قُرْبةٌ وزُلْفَى عند الله، والمسلمون يلْعنونه في كلِّ ركعةٍ من صلواتِ الفريضةِ وصلوات النافلة إلا أن الاستعاذة في الركعة الأولى واجبة لقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة النحل/ 98]، وهي في باقي الركعات سنة كلما لَبَّس عليك الشيطان صلاتك؛ فجاء هذا الاستطرادُ سبتيةً كاملةً؛ فكَرِهتُ أن أُلْغِيَه وهو مُعْجِبٌ مُطْرِب.. ومثلُ هذا الاستطرادِ وَرِثْتُه مِن كُتُب (الجاحِظ)؛ وهو طاردٌ السأَمَ والْمَلَلَ، ثمَّ هو مع جمالِه ضرورِيٌ منذ هَضَمْتُ فلسفةَ تداعي الْخَواطِرِ والْمعاني في فلسفة الغربيِّين إذا كان مع جمالِه حفيلَ الفوائِدِ ولم يكن فُضولاً؛ فإلى لقاء، والله المُسْتعان.