د. عبدالرحمن الشلاش
ينطلق أغلب المفتين عندما يتصدون لأي مسائل مطروحة من الناس أو متداولة في المجتمع من الكتاب والسنّة بإيراد الأدلة الصريحة الواضحة، لذلك يظل هذا النوع من الفتاوى راسخاً باقياً لا يتبدّل ولا يتأثر بتقادم الزمن، فالأدلة مثلاً على تحريم الربا وقتل النفس التي حرّم الله والفساد في الأرض والسرقة والرشوة، واضحة وصريحة ولا تحتاج لبحث كبير إلا في جزئيات غامضة أو حالات طارئة.
في حال عدم وجود أدلة أو إجماع يلجأ بعض المشايخ للقياس، ومن هذا الباب الواسع يدخل المئات وبعضهم ليس لديهم العلم الكافي، فإما ينزعون إلى التشدد احتياطاً من الوقوع في الخطأ فيأتي تشددهم بفتاوى تضيق على الناس، ونوعية أخرى من المفتين يميلون للتساهل فيفتحون الباب على مصراعيه، وكلا النوعين أحدثا ضرراً بالغاً وهو ما أدى بكثير منهم إلى التراجع عن فتواهم بعد أن لقيت نقداً لاذعاً من كبار العلماء، وعدم تقبُّل من الناس، والسبب في نظري عدم إلمام أولئك بمجريات الواقع، أو نزوع بعضهم إلى التبسيط والتسهيل كسباً لآلاف الجماهير، أو التشدد لكسب بعض رموز التطرف.
لو عدنا لنحصي تلك الفتاوى التي انتهت صلاحيتها سنجد الكثير، والسبب أن من أفتوا كانوا بعيدين عن واقع الحياة وربما معزولين أو من طلاب شهرة همّهم الظهور والسيطرة على المشهد. أستثني هنا الفتاوى الصادرة من هيئة كبار العلماء، ومن المجامع الفقهية فهي فتاوى تصدر بالإجماع ومن علماء كبار معتبرين، وما يصدر عنهم من فتاوى يخضع للبحث والدرس والتدقيق والتمحيص، لذلك قصرت الدولة هذا الشأن في هيئة كبار العلماء لمنع الاجتهادات غير الموفقة ووقاية المجتمع من التشويش عليه.
إذا كانت محرمات كثيرة في الماضي أصبحت اليوم جائزة، فإنها بسبب فتاوى غير موفقة حرمت ردحاً من الزمن الاختلاط في الأماكن العامة، والتصوير بكل أشكاله وأنواعه وجوال الكاميرا والتلفزيون والقنوات الفضائية وتعليم البنات وعمل المرأة، وحتى خروجها من بيتها. كان هذا في الماضي واليوم صارت مباحة وغيرها كثير ومن حرمها في الماضي أجازها حالياً، وهنا نكون أمام حالات من التراجع إما بسبب سوء الفهم، أو الجهل بالواقع ومقتضياته، وضعف في القياس عند غياب الدليل القطعي من الكتاب والسنّة، علاوة على الضعف الواضح في استشراف المستقبل.
نكون أحياناً أمام فتاوى انتشرت في عصر الإنترنت بعضها مثير للضحك مثل من أفتى بتحريم السفر إلى دبي وأمام الضحك على فتواه تراجع، وآخر أفتى وبما أثار التقزز والاستهجان بأن لا يخلو الأب بابنته الكبيرة إلا بوجود والدتها!
أخطر أنواع الفتاوى منتهية الصلاحية وأشدها ضرراً ما أدى بثلة من شبابنا للتوجه لساحات القتال دون الاستئذان من ولي الأمر، وتكفير الدولة والشعب، وجواز قتل رجال الأمن المؤمنين المرابطين، وعدم موالاة الأهل والأقارب إذا كانوا لا يؤيدون الإرهاب، ورغم أن الأغلبية لا تؤمن بمثل هذه الفتاوى التحريضية والداعية للإرهاب بالقتل والتدمير بل وتستخف بها، إلا أن هناك جهلة وصغاراً يخدعون بها، ويزيّنها لهم بعض الدعاة إلى الفتنة، لذلك فتطبيق قرار قصر الفتوى الذي أشرت إليه بكل صرامة خير سبيل لوقاية المجتمع من المفتين بغير علم والضالين المضلين.