د. جاسر الحربش
يدلنا التاريخ إلى حقائق تتكرر باستمرار ولا يفيد لصدها الإنكار ولا الاستنكار. السباق على الجاه بين العلماء، بما يشمل علماء الدين فيما بينهم وعلماء الدنيا مع بعضهم، سباق أزلي وعنيف. السبب ببساطة يتلخص في أنه لا يحب أحدهم لأخيه في التخصص أن يبزه ويتميز عليه ويحتل المرتبة الأعلى عند السلطة والجماهير. الإشكال يحدث بمقدار ما يزداد الزخم التنافسي مما يؤدي إلى ازدياد احتمالات الانزلاق والتدليس وجر المجتمعات إلى مصائر غير محمودة. هل يوجد فارق في النتائج المحتملة بين سباق علماء الدين فيما بينهم وعلماء الدنيا مع بعضهم؟.
السباق الوجاهي بين علماء الدين أدى مراراً وتكراراً وما زال يؤدي إلى تحميل الدين ما ليس فيه، مثل الأحاديث الموضوعة واختلاق الرؤى والتشدد في الأحكام والتكفير والتخندق المذهبي، وفي أسوأ الظروف إلى الخروج والإرهاب. من ناحية أخرى أدى وما زال يؤدي السباق الوجاهي بين علماء الدنيا إلى نظريات واكتشافات واختراعات جديدة يستفيد منها الناس أحياناً في التعامل المعيشي لكنها تتحول أحياناً إلى وسائل قوة فوضوية وقهر وتدمير.
لدينا إذاً سباق داخلي بين علماء الدين فيما يخصهم مع بعضهم، وبين علماء الدين كذلك، ومن هنا يأتي السؤال المهم : ماهي النسبة والتناسب الأفضل للمجتمعات والشعوب (عددياً ومعيشياً وأمنياً) بين علماء الدين إلى علماء الدنيا، بحيث لا يطغى تأثير أحدهما على الآخر فتنزلق المجتمعات في حالة السباق بين علماء الدين إلى مزايدات واجتهادات شخصية وتدمير ذاتي للدين والدنيا، وبين علماء الدنيا من جهة أخرى بحيث لا تنزلق الشعوب إلى طغيان القوة المادية والاستعباد ونهب الثروات بسبب الفارق في القوة الدنيوية.
لن يكون الجواب سهلاً لأنه أصلاً غير متوفر، لكن الأمور قد تتضح من خلال تاريخ الممالك والشعوب. ما يتكرر تاريخياً هو أن المجتمعات التي تكون فيها الأولويات للسباق التنافسي بين علماء الدين تزداد فيها المزايدة والغلو والإقصاء، فينتج عن ذلك الضعف الدنيوي بما يترتب عليه من تبعات. على الطرف الآخر نجد تاريخياً أن تلك المجتمعات التي تكون فيها الأولويات للسباق التنافسي بين علماء الدنيا، فإن هذه تصبح أكثر قدرة على التحكم والسيطرة ونهب الثروات من الشعوب ذات الخصوصيات التنافسية الدينية.
نحن تاريخياً إذاً أمام نوعين من السباق العلمي، التنافس بين علماء الدين داخل مجتمعهم مما قد يؤدي إلى ضعف دنيوي واضح، والتنافس بين علماء الدنيا في مجتمعهم مما قد يؤدي إلى قوة دنيوية واضحة.
الآن يطل برأسه السؤال الأهم، أي النوعين من المجتمعات يكون الأقرب إلى صلاح أمور الدنيا والآخرة؟.
لا يصلح أن يكون الجواب على هذا السؤال باستعمال مظاهر التعبد والتقوى والنزاهة في طرف ولا بكثرة علماء الطب والكيمياء والنواة في الطرف الآخر، لأن الحكم قائم بالفعل ومؤسس على تعريف ما هية الانتساب إلى أي دين ثم إلى أي مذهب وربما إلى أي حزب ديني أو تجمع، إلى آخره. هنا يتم عند الطرفين قياس العلاقة بين الدنيا والآخرة بمساطر العقائد والمذاهب والفئويات، مما يغذي حالة الإنهاك الذاتي عند طرف ويؤجج غرائز التحكم والسيطرة والنهب عند الطرف الآخر.
إذا قبلنا العمل بالقياس التطبيقي السائد، مثلاً لعدد الأطباء مقابل كل ألف نسمة من السكان، ولنسبة الفنيين إلى الأطباء ونسبة الأسرة المتوفرة لكل مائة ألف مواطن ونسبة المعلمين والمعلمات لأعداد الطلبة والطالبات، إلى آخر المقاييس العلمية في التخطيط المدني، فهل يتوجب أيضاً استهداف الحصول على أفضل نسبة لأعداد المتخصصين في علوم الدين إلى المتخصصين في علوم الدنيا، التي تستقيم معها أمور الدنيا والآخرة، وذلك بعد الاتكال على الله؟.