د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
بإعمار حي البجيري وربطه بالدرعية القديمة أثمر التعاون بين الهيئة العليا لتطوير الرياض والهيئة العامة للسياحة والآثار إضافة قيمة ثقافية جديدة لمدينة الرياض، تمثّلت في ميلاد مَعْلم حضاري سياحي مثير للاهتمام والمتعة،
يقصده الزوار والسيّاح من خارج الرياض، سواء كانوا مواطنين أو ضيوفاً، فوق أنه سيكون متنزّهاً لأهل الرياض، يجدون فيه ما يفتقدونه من منتزهات مفتوحة رحبة يدورون ويتحرّكون فيها على سجيّتهم، ويتمشّون في طرقاتها الصاعدة والهابطة، ويستمتعون بمناظرها الجميلة رجالاً ونساءً وأطفالاً، عوائل وعزاباً.
زرت هذا الحي مع عائلتي في عصر يوم الجمعة بعد افتتاحه، ولفت نظري العدد الغفير من الزائرين الذين ملؤوا ساحاته ودروبه، وقبلها غصّت الشوارع والمواقف بسياراتهم.. وشغلت نفسي بالتساؤل عن دلالة ذلك: هل هو الفضول المعتاد أمام حدث جديد يشدّ الانتباه، ثم ينطفئ بعد حين؟ أم هو الشوق إلى السعة والانشراح والهواء الطلق؛ ليفرّجوا عن أنفسهم بالخروج من ضيق المدينة المزدحمة ولو لبضع ساعات؟ أظن الاحتمال الثاني هو الجواب الصحيح والمنطقيّ. فالثابت مما رأيته أن الذين فكّروا وصمّموا لهذا المشروع لم يأخذوا في الاعتبار قيمته التاريخية والثقافية فحسب، من خلال ربطه بالدرعية القديمة وبالطراز المعماري التقليدي، بل أخذوا في الاعتبار أيضاً المزاج الاجتماعي، من خلال توفير مساحات مزروعة بالنجيلة منتشرة في أرجاء المنتزه، يعشق الناس عندنا أن يفترشوها؛ ليتخذوا منها مجلساً (يتريّضون) فيه، ويتناولون الشاي والقهوة. وربما لا يحتاج البعض - ولاسيّما هواة المشي - إلى افتراش الزرع، ويكفيهم من المتعة تمشية في الطرقات الرحبة الممتدّة خلال المنتزه، وإطلالة متواصلة على القِطَع المنتشرة المزروعة بالثيّل والمحاطة بالنخل، والمزارع المجاورة المكتظة بالنخيل، وعلى المدرّجات العريضة المفروشة بالزرع الواقعة على جنبات الوادي. ومع ذلك لا بدّ من التنويه - حسب ما تمّ ملاحظته - بأهمية إبداء حزمٍ أكثر تجاه عمّال النظافة، ومنع الأطفال من إزعاج الزوار بتقاذف الكرات، وتوفير أماكن مخصّصة للعبهم، وتوجيه الزوار بعدد من اللوحات الإرشادية.
وسائل الراحة والترفيه ليست متاحة بما فيه الكفاية، ربما لحداثة الافتتاح. المنتزه يستوعب العديد من المقاهي والمطاعم والبوفيهات، وبالتأكيد فإن جلسة في مقهى مكشوف مُطِلّ على المناظر الجميلة أسفل منه ستكون - بعد تمشية طويلة - مرغوبة. وإذا كان المستثمر الخاص لا يرى جدوى من فتح مقهى مثلاً لا يعمل إلا وقتاً قصيراً في اليوم والأسبوع، وأيضاً في فصول معيّنة من السنة، وبدون ضمان أعداد كافية من الزبائن، فربما يمكن تشجيع الاستثمار من خلال قيام هيئة تطوير الرياض بتخصيص أماكن محدّدة ومصمّمة وكاملة التجهيز، وتأجيرها على المستثمر بمقدار وقت تقديم الخدمة (كم ساعة في اليوم وكم يوماً في الأسبوع... إلخ)، بحيث لا يحتاج إلا إلى إحضار (مواعينه وموادّه وعمالته)، وعند انتهاء مدة عقد التأجير يجدّد أو يغادر. ومن جانب آخر، لا أدرإن كان مقبولاً تطبيق طريقة شاهدها بعض سياحنا في لندن في (الهايد بارك)، وهي تأجير كراسي (وفي حالتنا مع الطاولات) من إدارة المنتزه - مثلاً - للزوار الذين يرغبون في استخدامها للتريّض على إحدى القطع المزروعة المنتشرة، بدلاً من افتراشها.
وعلى أية حال، فإن الهيئة العامة للسياحة والآثار التي ترعى وتقنّن المشاريع السياحية والأثرية هي الأدرى بما يجب أن تتحلّى به المواقع السياحية من صفات وخدمات تجذب الزوار، وتُرضي تطلّعاتهم وأذواقهم. وليس هذا أول المشاريع ولا آخرها الذي أظلّته الهيئة بمتابعتها واهتمامها والمعايير التي وضعتها؛ لكي يأخذ الطابع الثقافي والسياحي المميّز، بالتعاون مع الجهات المسؤولة المنفّذة لتلك المشاريع. ويكفي الإشارة إلى مشروع جدّة التاريخية. هذا النوع من المعالم السياحية التي تجمع بين الثقافة والتراث المعماري والذوق الحسن يضفي على المدن جمالاً يجذب الزائرين من خارج المدن ومن داخلها. نعم، من المهم أن تكون عامل جذب لسكانها بالدرجة الأولى. لقد تعوَّدنا عند التعرض للشؤون السياحية أن يكون الحديث عن السياحة الخارجية أو الداخلية (من مدينة أو منطقة لأخرى)، وهذه تكون إما موسمية، أو في أثناء حضور مناسبة، وتتطلب أخذ أهبة السفر.
لكننا نتجاهل أهمية (السياحة البلدية أو المحلية) - إن جاز التعبير - التي يقوم بها سكان المدينة نفسها للتريّض والتمشّي والترفيه من وقت لآخر في نهاية الأسبوع، أو خلال إجازة لا يستطيعون فيها - لظروف خاصة - ترك مدينتهم. كما أنهم موجودون فيها على مدى العام كلّه، بما فيه من إجازات أعياد ونهايات أسبوع. وإذا كانت مدن كبرى مثل الدمام وجدة قد حباها الله بالبحر، وفتح لسكانها مجالاً فسيحاً لتغيير الجو، فإن سكان مدينة تقبع في وسط الصحراء (مثل الرياض) يفرحون لوجود منتزه قريب، يسهل الوصول إليه، وفضاؤه مفتوح؛ يسمح بالحركة والاستمتاع بجلسات ومناظر مريحة وخدمات ترفيهية وهواءٍ عليل. ومدينة ضخمة مثل الرياض تحتاج إلى أكثر من منتزه كهذا.
وكان يمكن أن يصير الجزء الشمالي من حي السفارات واحداً منها، خاصة بوجود قصر طويق ذي الطابع المميّز والمنطقة الفسيحة المفتوحة بجواره، إلا أن متطلباته الأمنية كحي يضم سفارات العالم جعلت تحقيق ذلك صعباً.
وفي وسط الرياض هناك - كما هو معلوم - أكثر من مَعْلم سياحي وتراثي رائع في منطقة قصر الحكم ومنطقة المربع، لكنها أقل جذباً لجمهور الرياض؛ لأكلاً منهما يحيط به مناطق مزدحمة، وقد يكون في المستقبل أكثر جذباً عند تطوير المنطقة الفاصلة بينهما، بحيث تكون أكثر انفساحاً واتساعاً واخضراراً، وأكثر تشويقاً بإضافة عناصر سياحية وترفيهية مرغوبة. هذا لا يعني أن منتزهات مثل وادي حنيفة أو وادي نمار أو الحدائق الكبرى أو المدن الترفيهية داخل الرياض وحولها أقل أهمية وجاذبية، لكنها فقط مختلفة.