د. محمد عبدالله الخازم
عندما نتحدث عن الحياة الفكرية بالجامعات يعتقد البعض أنها مجرد محاضرة أدبية هنا أو هناك، وبمجرد عقد تلك الندوة أو المحاضرة نجدهم يعتبرونها تهدف إلى تنشيط الحياة الفكرية. وبعض تلك الندوات مجرد عناوين براقة تفتقد المضمون المنشود. والواقع أن ذلك تهميش لمفهوم التطور الفكري ظلننا نكرره على مدى عقود بمباركة أو بقيادة وزارة أخذت على عاتقها الاهتمام بالتحكم بالجامعات أكثر من قيادتها للتطور الفكري والمعرفي. هذه تهمة قاسية - أرجو أن أسلم من عواقبها- لكنني استند في هذا القول على أهم مؤشرات التطور الفكري الذي تم خنقه والقضاء عليه بالجامعات السعودية، ألا وهو مؤشر الديموقراطية والتنوع الفكري. لا تقدم فكري دون حرية رأي تدعمها آليات ديموقراطية ولا تقدم فكري لمجتمع بمعزل عن تقدم فكري بجامعاته.
التاريخ يسجل بأن جامعاتنا كانت تحظى ليس فقط باستقلالية إدارية أو مالية، بل بآليات ديموقراطية في انتخاب قياداتها تحميها مجالس عليا مستقلة. لم يكن انتخاب رئيس القسم أو عميد الكلية، مجرد آلية ديموقراطية لاختيار القيادة الأكاديمية وإنما كان نموذجًا ومصدرًا لحماية الحرية الفكرية في مختلف مؤسسات وقرارات الجامعة. تم وأد كل ذلك عن طريق الوزارة التي أسست بهدف الإشراف على التعليم العالي وإستراتيجياته المختلفة، فتحولت مع الوقت إلى جهة تكرس المركزية وتلغي التباين بين الجامعات وتؤد مناخات التقدم الفكري في التعليم الجامعي.
وكانت الخطوة التالية في منع الاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني الممثلة للأساتذة والطلاب والكليات والتخصصات واستبدالها بجمعيات علمية تمثل التخصصات العلمية، جمعيات علمية أسست لمفهوم عقيم يتمثل في عزل العلم عن الفكر، بل أحسبهم استخدموا مصطلح الجمعيات العلمية لتأكيد عزلها عن التطور الفكري، حتى في التخصصات ذات الصبغة الفكرية البحتة كتلك المنتمية للعلوم الإنسانية والإعلامية والسياسية. جمعيات لا تمثل مهنها ولا تمثل المنتسبين لتخصصها ومجالها وإنما تمثل ثلة من الأكاديميين الباحثين عن ضوء يضاف لسيرهم الذاتية حتى ولو كان وهميًا. وإمعانًا في ذلك الأمر صممت انتخابات وهمية تضمن لمجلس قسم أكاديمي بجامعة واحدة - التي تنتمي إليها الجمعية- السيطرة على مجلس إدارتها. أي جمعيات تلك التي لا تتجاوز أدوارها ندوات تعليمية متواضعة وربما مجلة علمية وموقع إلكتروني؟!
لا أدري هل نحن نضحك على أنفسنا أم على الآخرين، وبالذات جهات الاعتماد والتصنيف، حينما ندعي وجود مؤسسات مجتمع مدني تمثل الطلاب أو الأساتذة أو التخصصات، وفي النهاية هي مجرد مجالس أو لجان تعين الجامعة أعضاءها أو جمعيات تعاونية استهلاكية لأعضاء هيئة التدريس؟!
وبعد اقتلاع وزارة التعليم العالي وحوالي أربعة عقود من السعي نحو تكريس المركزية وإلغاء مقومات الهوية الفكرية الحرة للجامعات السعودية بشكل قاد إلى سير جامعاتنا وفق مشية عرجاء، في وصولها إلى مصاف الجامعات العريقة عالميًا. بعد كل ذلك نحن في مفترق طرق مع وزارة جديدة لم تتبين ملامحها الفكرية بعد؛ فإما العودة إلى مراحل البدء وإعادة تأسيس بنية وهوية فكرية واضحة لجامعاتنا ومجتمعنا بصفة عامة، أو الاستمرار على نفس المنوال والخوف من تغيير حالة السكون التي تعيشها جامعاتنا ومجتمعنا.
أكرر المعنى؛ لا هوية فكرية لأي جامعة دون ديموقراطية تعزز الحرية والتمثيل المؤسسي لمختلف أطياف الجامعة ومجتمعها الداخلي والمحيط بها. التقدم العلمي يحتاج مناخًا فكريًا حرًا، يؤسفني أنه متواضع داخل مؤسساتنا الجامعية، وتم استبداله بصوتي الإعاقة لكل تميز وتنوع وإبداع وحرية؛ الصوت الأيدلوجي وصوت المركزية. ولست أعلم أيهما كان الدافع لتكريس الآخر، أهو الإداري الذي كرس الأدلجة كوسيلة لفرض سلطته أم الأيدلوجي الذي أصبح يستخدم الإداري لفرض أدلجته الضيقة.