الهرطقة الإدارية فكر غير مسبوق، هدفه إحداث تغيّر في منظومة مسلمات إدارية مستقرة، بإدخال مسلمات جديدة أو إنكار أجزاء أساسية منها، بما يجعلها بعد التغيّر غير متوافقة مع المسلم المبدئي الذي نشأت فيه هذه الهرطقة؛ أي أنها الشيء غير المنطقي وغير المعتاد الذي يمس منظومة المسلمات الإدارية.
تعاني بعض دوائر الأعمال من هرطقات إدارية مرتجلة تجعل الصالح طالحاً، والواضح مبهماً، والباطل حقاً، والحق باطلاً، وتجعل بيئة العمل أشبه ما تكون بحلبة المصارعة؛ هرطقات سلبية خالية من أي إبداع، لا تضيف ولا تخدم ولا تقوي ولا تحمي إلا أصحابها وأتباعهم ومصالحهم الخاصة.
الهرطقة الإدارية -في رأيي- حق مشروع لكل إداري، خاصة إذا كانت هذه الهرطقة غير تقليدية، وفيها إبداع أو مفهوم جديد في الإدارة، بغض النظر عن الأسباب التي تؤدي إلى ما هو أفضل، وهي على الرغم من كونها حقاً وإبداعاً وحرية، إلا أنها قد تمثّل في بعض المنظمات خطر شق الصف وإضعاف الرأي والانقسام وتشتيت الجهود.
بالتأكيد هناك هرطقة سياسية وهرطقة ثقافية ودينية ورياضية وإعلامية وصحية وغيرها، ونحن هنا لا نعيب الهرطقة إذا كانت منطقية ومقبولة وذات قيمة مضافة، ولكننا فقط نعيب فتح باب الهرطقات السلبية التي لا تخدم منظومة العمل الإداري.
قد يتبين للمنظمة أن فرداً أو تياراً يهدّد سياستها وتنظيمها بهرطقاته، وتضطر إلى أن تحارب هذا الشخص أو التيار، باللجوء دفاعاً عن نفسها إلى سلاح التشهير والتهميش والقطع والحرمان، وهذا السلوك يتعارض مع أسس التنظيم المبني على الشراكة والمحبة وقبول الآخر والاتجاه نحو وحدة الأهداف، إذ كيف للمنظمة الإدارية المسؤولة عن نشر الفكر الإداري، وتعميق روح المحبة بين العاملين، أن تحارب أشخاصاً بالتهميش والتطفيش والطرد؟! ألا يوجد هنا شبهة قسوة، وإرهاب فكرى، وتعارض مع اتجاه التجميع والاحتضان والتسامح والحب والعمل بروح الفريق الواحد؟ وفي المقابل لا يجوز للمنظمة أن تترك كل إنسان يفكر كما يشاء، وينشر فكره مهما كان تحت ادعاء طيبة القلب والتساهل والحرية والانفتاح، وقبول وتأييد البعض.
المنظمة الإدارية ليست مكاناً دينياً يعد الخروج على تعاليمه شر ومن وحي الشيطان، المنظمة الإدارية مكان يجمع الناس على أهداف ومصالح مشتركة تقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات، وتعد الهرطقات الإدارية فيها ضرباً من الإبداع لا من الشر، كما يعتقد البعض.
البساطة ليست السذاجة وقبول أي فكر، بل مع البساطة لا بد من وجود الحكمة وفرز النافع من الضار، بعيداً عن الحسد والخصام والانقسام والعناد والتحزّب وافتعال الخصومات والأزمات وإلحاق الضرر بالغير.
نعم، الهرطقة حقّ وحريّة؛ حرية تعبير، حرية ضمير، حرية رأي، حرية اختلاف وغيرها من الحريات المختلفة التي هدفها الأساس، إيصالنا إلى حقيقة أنه من حقّنا أن نختلف مع المُثُل والتقاليد التي نشأنا عليها، ومن حقنا أن نناقش ونحلّل بحرية، وأن نخلص إلى نتائج مختلفة، ونصوغ قناعات مختلفة؛ أي من حقّنا أن نهرطق، دون أن ينتقص ذلك من إنسانيتنا وحقوقنا الأساسية، ولكن ليس من حقّ أحد أن يفرض حقيقته، أو هرطقته على الآخرين، فمن يؤمن بحق المرء في الهرطقة يرفض وضع القيود على العقول والضمائر. ولا يمكن أن نكون أبداً من الذين رضوا بالقليل أو بالكثير على حساب كل مبدأ وكل حافز على الإبداع، فتحوّلوا بذلك من بشر إلى عَلَق، واعترفوا بقداسة التخرّص على حساب الإنسانية.
في الختام، نعتقد أن الكل حر، ويمكنه أن يهرطق كما يحلو له، بشرط أن يحترم النظام، ويقدّر الإنسان، ويعرض هرطقته بأدب، ولا يفرضها بالقوة.
نفعنا الله وإياكم بالهرطقات الإيجابية، وكفانا وإياكم شر الهرطقات السلبية وأصحابها.