د. محمد البشر
هذه مخطوطة لمحمد بن أحمد مياره، وتم تحقيقها من قبل مينة المغاري، وحفيظة الداري، وعنوانها الأكمل «نصيحة المغتربين وكفاية المضطرين في التفريق بين المسلمين بما لم ينزله رب العالمين، ولا جاء به الرسول الأمين ولا ثبت عن الخلفاء المهديين».
وهي مخطوطة قد لا يكون لها أهمية كبيرة لولا أنها كتبت في القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي، أي في فترة العصور الوسطى، ومؤلفها مغربي لغوي عاش في عهد السعديين، وامتد به العمر حتى رأى بأم عينه نهاية دولتهم، وبداية قيام الدولة العلوية التي ما زالت حاكمة حتى يومنا هذا، فقد ولد المؤلف في عام 1002 هجرية، وتوفي عام 1072 هجرية، الموافقة 1662 ميلادية، وهذا التاريخ منقوش على حجر منصوب على قبره، والغريب أنه رغم علمه وشهرته، وشهرة شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، وكثرة مؤلفاته وفتاواه، فلم يتولى أية وظيفة شرعية أو دنيوية، وكان يعتمد في معاشه على حلي يكتريه للنساء في الأعراس، وفي الحقيقة أنني توقفت عند تلك التجارة البسيطة الغريبة، من عالم مثل محمد المياري، ولعل السبب في ذلك ثقة الناس به، واحترامهم له، وكذلك جهله بأمور التجارة، أو أساليب التقرب من الحكام، أو أنه الحظ ولا غير ذلك، لا سيما أنه معروف بورعه وبعده عن الرياء، كما أنه على قدر كبير من التقوى وكرم الأخلاق.
وهذا المؤلف، اشتهر بكتاباته عن النوازل، وكيف لا وعصره قد كثرت فيه النوازل، ولكن هذه المخطوطة التي نحن بصدد الحديث عنها، قد تتحلى بالغرابة عند البعض، والبساطة والسطحية أيضاً، لكن الموضوع قد يكون أعمق من ذلك بكثير، لأنه ينقل لنا اختلاف العلماء والفقهاء حول قضية كانت سائدة في العهد المريني والسعدي.
لقد تم تعرض قاضي ومفتي فاس ولقبه المري لمشاكل عديدة بعد أن أفتى بإباحة تعمير أسواق فاس من طرف حديثتي العهد بالإسلام، وكان السائد في ذلك العصر وما قبله بعقود أن ذلك غير جائز، لذا فإن هذه النصيحة تصب في مشكلة اجتماعية وصراعاً يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، حين عرفت فاس عدة اضطرابات، كانت نتيجتها قتل بعض السكان من غير المسلمين أو حديثي الإسلام، ولا شك أن للمطامع الدنيوية الباع الأطول في هذه المشاكل.
وحديثي الإسلام يطلق عليهم في فاس في ذلك الوقت «الإسلاميين» أو «المهاجرين» ويلاحظ أن أهل ذلك الزمان في تلك البقعة من أرض الإسلام تطلق على حديثي الإسلام الإسلاميين وليس المسلمين، وهم في الواقع كانوا مسلمين وتنصروا مجبرين عند سقوط الأندلس، وبعضهم أخفى إسلامه، ثم هاجروا أو طردوا وعاشوا في مدن كثيرة في المغرب والجزائر وتونس وغيرها، وبعضهم كانوا يهوداً وأسلموا وهم كثر، وحملوا معهم ثقافتهم وعلمهم الأندلسي الراقي، ولذا فلم يكن من السهل على سكان فاس وغيرها من المدن الأخرى قبول هؤلاء الوافدين الذين يعتبرون أكثر تحرراً، فبعض نسائهم تتسامح في اللباس، وربما أن معرفتهم بالصلوات وغيرها من العبادات قليل لأنهم حديثي عهد بالإسلام أو تجديد الإسلام.
لعل المرحلة الأولى بدأت عام 934 هجرية، عندما حاول إسلامي كما يسمى أو مهاجر، اسمه أحمد بن إبراهيم بن يحي المكناسي أن يبني له حانوتاً بقيسارية فاس الكبرى، وذلك ليبيع في الحانوت ثياباً فاخرة من الحرير والخز، فمنعه التجار من تعمير حانوته، ورفعوا أمره إلى الأمير الوطاسي، الذي استفتى فيها الفقهاء، فاختلفوا في ذلك، لكن الفقيه أحمد الحباك تصدر الدفاع عن حديثي الإسلام، وأفتى بجواز بنائه لحانوته، وأبطل دعوى التجار.
وفي مرحلة ثانية في مطلع القرن الحادي عشر، تجدد اعتراض التجار على دخول حديثي الإسلام إلى القبة الكبرى بفاس، فتدخل أمير فاس محمد الشيخ مأمون، غير أنه لم يسلك سبيل الأمير أحمد الوطاسي في استفتاء الفقهاء، وإنما اكتفى باستشارة من حوله من مساعديه في البلاط، فأصدر بعد ذلك قراراً يسمح لحديثي الإسلام بدخول القبة وغيرها من الأماكن المعتبرة عند أهل فاس، فقد ساوى بين المسلمين القدامى وحديثي الإسلام.
والمرحلة الثالثة، كانت بعد وفاة أحمد المنصور الوطاسي، واستيلاء الدلائيين على فاس، فكانت أحداث مؤلمة بين المسلمين وحديثي الإسلام، حمل أثناءها السلاح.
والأحداث والفتاوى كانت كثيرة في هذه النازلة كما يسميها مؤلف المخطوطة، التي أطلق عليها «نصيحة المغترين» حيث إنه كان يدعو إلى نبذ التفرقة بين المسلمين، والدعوة إلى التسامح، والتعامل بالحسنى، وقد أورد كثيراً من الأدلة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، قرب عبدالله بن سلام الذي أسلم، وتزوج ابنته، مع أنه كان يهودياً دخل في الإسلام حديثاً.
الإسلام يجب ما قبله، والإسلام دين المحبة والسلام، والإسلام خير للأنام، لكننا ابتلينا في زماننا هذا بقلة قليلة من أصحاب الأفكار الهدامة، الذين بليت بهم الأمة، وقرروا بمحض إرادتهم، وبفتاوى قادتهم أن يفرقوا بين المسلمين ويجعلونهم شيعاً تتناحر فيما بينها لمآرب دنيوية، وغايات غير سوية، وبفكر ضال، غير سوي، يرى أصحابه المسلمين الخيرين أعداء، ولا يرون الصلاح إلا في أنفسهم، والكفاية إلا في نحلتهم، والقبول إلا لهم، وهم من الصلاح براء، براءة الذئب من دم يوسف.
إننا في معركة كبيرة ضد الأفكار الضالة، المتنوعة المشارب والمذاهب، التي يقودها ساسة ليس لهم هم إلا مآربهم، ويكون وقودها أفراداً غرر بهم وركبوا سفينة غير سفينة النجاة، ودرباً غير درب الحق، اللهم ألهمنا طريق الحق والصواب.