د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** تبقى الصفاتُ نسبيةً يصعبُ إطلاقُها إلا في حدِّيتها الطرفيةِ عند اتجاهي التضاد؛ فالطويلُ- مثلًا - أقصرُ ممن يفوقه امتدادًا مثلما القصير أطولُ ممن يقلُّ عنه ارتفاعًا، وكذا هي الصفاتُ الخَلْقيةُ والماديةُ» التفاضليةُ»؛ فالصغيرُ أكبرُ ممن هم دونه والكبيرُ أصغرُ ممن هم فوقه، والممتلئُ أنحفُ ممن هم أكثر امتلاءً كما النحيفُ أسمنُ من الأضأل، وهكذا؛ لتبقى الأمثلةُ مفاتيحَ إيضاحٍ تيسرُ فهمَ مدلولٍ فلسفيٍّ مُغلقٍ حين يتجاوزُ المحسوسَ إلى المعنويِّ والمرئيَّ إلى المجرد؛ فالاعتدالُ والتطرفُ - وهما وسمان ضاق بهما الفضاءُ الإعلاميُّ اليوم- خاليان من المحدداتِ الفاصلةِ بين مكوناتهما، ويتواصلُ التدليل.
** لن نختلفَ حول تطرفِ «نتنياهو»؛ فهو عدوٌ صِهيَوْنيٌّ قاتلٌ، لكنه - عند قومه- وطنيٌ مخلصٌ، والتشددُ أو التطرفُ لا يُهجَوانِ كما لا يُهجران بإجماعٍ عولميٍّ، بل هما من ضروراتِ البقاءِ ومن طبيعةِ الأحياء، ولو ساد الاعتدالُ - كما نحسبُه- لما وُلدت دولةُ يهود كما لم تكن ثمة حاجةٌ للمقاومةِ لو تسيَّد المعتدلون؛ ما يعني أن التطرفَ هو الذي خلق دولةَ يهود مثلما أوجد دوافعَ التحرر، وهذا ما يقرّره قانون «نيوتن» الثالث عن «الفعل وردة الفعل»، ويؤكدُه صراعُ الحقِّ والباطل.
** المنطقُ - هنا - يفترضُ الإيمانَ بخطورةِ الارتهانِ للتعريفاتِ العائمةِ حول الصفاتِ المعنويةِ المجردةِ والاتكاءِ عليها في محاكماتنا الثقافيةِ العامة، وبخاصةٍ ما يتصلُ منها بالشخوصِ والمؤسسات؛ فقد ينقُضُ الزمنُ القادمُ هذه الأحكامَ، ولا شكَّ أن محاكمَ التأريخِ ستُعدلُ الصورَ المنمطةَ فتُعلي ما انخفضَ كما قد تخفضُ ما علا.
** لا مناصَ من هدمِ التصنيفاتِ «الفكريةِ» التي بُلينا بها، إذ لا معاييرَ لها ولا روابطَ تصلُ أطرافَها؛ فالمعتدلُ- عند فئامٍ- متطرفٌ عند آخرين، والواعي - لدى قومٍ- متخلفٌ لدى سواهم، والتنويريُّ مفرطٌ في نظرِ أناسٍ لا يُشبهون ناسه، وهو ما يُسقطُ منطلقاتِ التصنيف ومبرراته.
** الأحداثُ السياسيةُ والأوضاعُ الاجتماعيةُ مسؤولةٌ عن التغيراتِ الحادةِ التي تلدُ مواقفَ جديدةً يلتبسُ فهمُها؛ وبمعنىً أكثر دلالةً فلولا اغتصابُ فلسطين لكان للشهيد الشيخ أحمد ياسين - عليه رحمة الله - موقعٌ مختلفٌ لا يعيشُ فيه عمرَه بين النضال والسجن والملاحقة حتى الاغتيال، وهو نفسُه ما صنعه المناضل « نيلسون مانديلا» الذي لم يوصم يومًا بالإرهاب في حين طال ذلك الشيخَ المُقعدَ، والفارقُ هو القراءةُ السياسيةُ المتعددةُ وَفقَ الانتماءات والارتماءاتِ المسيَّسة.
** الأمرُ ذاتُه حين يوصفُ شخصٌ بالتشدد لاعتناقه فتوى لم يعتنقها والدُه وربما لن يعتنقَها ابنُه تبعًا للتغيرِ المجتمعيِّ المترجِّحِ بين كون الحِلِّ هو القاعدةَ والتحريمِ هو الاستثناء والعكس؛ ما يعني أن أسرةً واحدةً يتفق أفرادها في الأسس ويختلفون في التفاصيل، ولا يمكنُ عزوُ هذا إلى وسمٍ معنويٍّ أو معتقدٍ دينيٍّ، بل باقتناعاتٍ مبنيةٍ على الأثر الأبقى والمؤثّرِ الأقوى، ويظلُّ - خارج هذه الرؤية- أولئك المسكونون بالعنفِ القوليِّ والفعليِّ، إذ تسقطُ المعادلةُ ويغيضُ الاعتدالُ وتصبحُ النظريةُ بلا معنى.
**التصنيفُ شقاقٌ.