إبراهيم عبدالله العمار
لا أتابع التلفاز، خاصة لما أظهر العلم أضراره بالذكاء والانتباه، لكن من يتابعه سيلاحظ دائماً فقرة للدعايات بين البرامج بل حتى في منتصف البرنامج، فتتوقف الحلقة في منتصفها لتعرض عليك المنتجات، حاشرين أكبر قدر ممكن من السلع في ثوانٍ.
لا تظنوا أن الدعايات انتهت هنا أيها الكرام القارئين والقارئات، فالهجمة الدعائية لا تتوقف أبداً، وهي تلاحقكم في كل مكان. في الأفلام والمسلسلات التلفازية.. دعايات لا تنقطع. فإذا رأيتَ شخصاً يقود سيارة فهذه دعاية لها، ويتفق الصانعون مع مُنتجي المسلسل على أن يختاروا سيارتهم ويُبرزوا شعارها مقابل مبلغ، وكذلك المشروبات الغازية، فيُعطون المنتِجين مالاً ليُظهِروا شكل العلبة واضحاً في يد الممثل. والأفلام والمسلسلات هي مشاريع تجارية في هذا الزمن أكثر من كونها فناً؛ فهي فرصة للمُنتجين أن يحصلوا على أكبر قدر من المال من شركات الإلكترونيات والمأكولات.. إلخ. ولن تكاد ترى أي مُنتَج في أي فيلم أو مسلسل تلفازي إلا ووراءه اتفاق بين أصحاب الفيلم والكثير من الشركات. وهكذا يَظهر الممثل بكل براءة يحتسي مشروباً معيناً ويتلذذ به، ثم يركب سيارته واضحة الشعار، ويذهب لمطعم بارز اللوحة، وتُصوِّر الكاميرا ساعة يده وهو ينزل من السيارة، ثم شعار شركة الملابس التي على قميصه، ويُخرج هاتفه المتنقل ليريك اسم الشركة المُصنّعة، وربما يكيل المديح لهذا الهاتف الرائع وميزاته!
هدف شركة الإعلان أن تجعلك تصرف أكبر قدر من مالك على المنتجات. والدعايات لا تهدأ في أي وقت ولا تغيب عن أي مكان. ولعلك تعتقد أنك منتبه وتتحكم بمشترياتك، فتقول: «وما البأس في الدعايات؟ لن أشتري منهم بمجرد رؤيتي منتجاتهم، بل متى ما رغبتُ». لكن اعلم أن كثرة تعريضك للمنتجات - حتى بشكلٍ غير مباشر كما في البرامج - يجعلك تميل لشرائها، فهذه الأمور تتلاعب بالعقل الباطن، فتشتري من مطعم ظاناً أنك اخترته، ولكن الذي دفعك فعلاً أنك رأيت دعايته أو رأيته في مسلسل تلفازي قبل بضعة أيام، ومكث في بالك وأنت لا تشعر.
هذه حقيقة أُثبِتت بتجارب كثيرة، وهي من المدهِشات في كتاب «التفكير السريع والبطيء» للكاتب دانيل كانمان الفائز بجائز نوبل، لدرجة أنه ظهر لها اسم: ظاهرة «مُجرّد التعرُّض»، أي أن فقط تعريضك لشعار شركة أو اسم منتَج باستمرار يحبّبك فيه بلا شعور. ومما أثبت هذا تجربة العالِم روبرت زاجونك: نَشر في صحيفة أمريكية أسابيع عدة كلمات غامضة غير مفهومة في مربع. اختلف عدد مرات ظهور الكلمات، بعضها ظهر مرتين، وبعضها أكثر. بعد فترة سُئل الناس عن تلك الكلمات إذا ما كانت تعني شيئاً طيباً أم سيئاً، والنتيجة مدهشة: أكثر الكلمات تكراراً صارت أكثر إيجابية من الكلمات التي ظهرت مرة أو مرتين! كُرّرت التجربة باستخدام أوجه، وأشكال مضلّعة، وأحرف صينية، وكانت النتيجة نفسها: الأشكال والكلمات التي تكررت كثيراً على الناس صار الناس أكثر ارتياحاً لها، ولا يدرون لماذا.
هذه ظاهرة «مجرد التعرض mere exposure effect»، فأي شيء يكررونه عليك كثيراً فإن عقلك - بلا شعور - يرتاح له. وهذه الظاهرة لا تعتمد على الوعي. إن الوعي لا علاقة له إطلاقاً. الظاهرة تحصل في العقل الباطن حتى لو ظهرَتْ الكلمات بسرعة فائقة لا يسجلها العقل الواعي، بل إن ظاهرة «مجرد التعرض» أقوى لو لم يسجلها العقل الواعي!
وهذه مهمة الدعايات المكثفة؛ لذلك لا تستغرب لو رأيت بعض الدعايات لا تلبث أكثر من ثانية واحدة، فهي مقصودة ومدروسة. احذر خِدع من لا يريدون إلا مالك.