د. عبدالواحد الحميد
هدير الآلات العملاقة التي تشق مجرىً عميقا وسط الشارع الذي يُطِل عليه منزلي يَصُم الآذان. في اللحظة التي يخرج فيها المصلون من صلاة الفجر ينطلق القصف الصباحي الموجع، فيبدأ كل من في المنزل من مخلوقات الله في التقافز من المضاجع والمهاجع. آلات ضخمة مغبرة ذات رؤوس مدببة حادة ترفع مناقيرها في الهواء ثم تغرسها في أعماق المجرى الذي يزداد عمقاً واتساعاً مع كل موجة زلزالية يرتج لها الشارع وجميع المنازل المطلة!
مع تزايد وتيرة الصخب الصباحي وتصاعد أعمدة الغبار الذي يهطل بغزارة فَيَسُد النوافذ ويملأ ساحات البيوت وأبوابها يكون كلُ من في البيوت قد ترك مخدعه بسحنةٍ مقلوبة وامتعاض شديد من هذا النكد الذي يجلب الكآبة ويستمر حتى المساء!
الحكومة التي أرسلت هذه الوحوش الآليَّة إلى حَيِّنا الهادئ لم تفعل ذلك لأنها تريد أن تعاقب السكان وتنكد حياتهم. هي، فقط، كانت تمارس دورها الذي كثيراً ما ننتقده حين نتهمها بالتقصير في إنشاء مشاريع تنموية وإكمال البُنية الأساسية التي لا تستقيم الحياة بدونها، مثل مشاريع سفلتة الطرق وشق مجاري الصرف الصحي وتمديد شبكات الهاتف والكهرباء.
الوجوه الممتعضة الساخطة صباحاً والتي سرقت آلاتُ الحَفْر الشرسة لذةَ النوم من عيونها هي نفس الوجوه التي ستعلوها إمارات الامتعاض والسخط في جلسات المساء في الاستراحات والديوانيات حين تتحدث عن قصور التنمية وتقصير الدولة في إنشاء المشاريع التي تريح المواطن وتنقلنا من خانة الدول النامية إلى الدول المتقدمة.
كل الناس يريدون التنمية ويطالبون بها، لكن مشكلة التنمية أنها لا تهبط علينا من السماء بلا وجع أو معاناة. لا يمكن أن تستورد الحكومة من كوريا أو اليابان طريقاً مسفلتاً في حاوية على ظهر باخرة ثم تطرحه بهدوء أمام منازلنا فنستيقظ صباحاً لنتفاجأ أن حكومتنا «الرشيدة» قد استوردت لنا شارعاً جميلاً يخلو من المطبات والحفر.
للتنمية ثمنٌ فادح، وليس «العكننة» التي تقلب أمزجة الناس وتُلهِب أعصابهم هي أفدح ما في الأمر. ففي بلدان كثيرة لا تتحقق مشاريع التنمية إلا بالتضحية بالاستهلاك أو تأجيله أو بدفع الضرائب. لذلك أجد أن امتعاضنا من الآلام التي تُصاحب التنمية يتناقض مع مطالباتنا بتحقيق هذه التنمية المنشودة. نحن نريد التنمية ولكن لا نريد أن ندفع ثمنها من راحة أعصابنا!!
هل نحن بحاجة إلى تذكير أنفسنا بألا ننزعج من المتاعب التي تجلبها لنا التنمية، وإنما علينا أن ننزعج حين تتعثر المشاريع أو نشم رائحة الفساد في تنفيذها؟ وهل نحن بحاجة إلى تذكير أنفسنا بأن نفاد الصبر بسبب إقفال الشوارع أو الشكوى من الضوضاء التي تقلق راحتنا ليس أكثر من رفاهية زائدة!
ذلك هو بعضٌ من ثمن التنمية، وعلينا أن ندفعه بطيب خاطر بل بسعادة كبيرة!