أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
أصبح تأويل الأحلام بالفضائيات وأدوات التواصل الأخرى تجارة شديدَة الحُرمة يستحلُّ بها عابرو الأحلام في الفضائيات بالخِداع والدَّجل، ومع هذا فلا يجوز التشكيك في أن الرؤيا ذات الرَّمز الدالِّ جزء من أجزاء النبوة؛ ولكنَّ ذلك بشرط العلم بحال الرائي صِدْقاً وإن وُجِدت كِذْبات
مباحة ليس فيها أكل مالٍ بالباطل كالاصلاح بين الزوجين، وكالمعاريض لتحقيق مصلحة للمجتمع، ودفع أذىً منه ولا سيما أُمَّةُ الإسلام كما في (الحربُ خِدْعة)؛ فإخفاءُ وِجْهةِ من مشى لمحاربةٍ مشروعهٍ جزءٌ من وسائل الحرب نفسها.. وإضافة إلى أكل المال بالباطل فهي مَبْعَثُ قلقٍ وحزنٍ طويل للمرئيِّ له، وشرائع الله تُحرِّم إيذاءَ المسلم، وتحرِّم إيذاءُ أيّ فرد من غير المسلمين بعير شرع من الله خاصٍّ يبيح إيذاء الجاني حتى يتوب منه كمرتكب حَدٍّ من حدود الله شنيع كجريمة الزِّنى؛ لما فيها مِن نشر الإباحية وإفساد النسل؛ لأن حفظَ العِرض من ضرورات الدين.
قال أبو عبدالرحمن: منذ أكثر من عامٍ كنتُ أعْمل في مشروع طويل أعمل فيه على تَمَهُّلٍ، وموضوعه (الباءَة وما إليها في الأحلام)، وقيَّدته بعنوانٍ آخر من تحت وهو (ميشيل فوكو [1926- 1984م] من خلال أَرْتيميدور)، والأخير مُفسِّرُ أحلامٍ شهير رَحَّالة، ويُنْسَب إلى أفسوس التي هي ضمن تركيا، وله كتابٌ كبير في تفسير الأحلام طُبع جزءٌ منه، وهو الجزء الذي ترجمه إلى العربية حنين بن إسحاق [-260هـ] بعنوان (تعبير الرُّؤيا)، وطُبع بدمشق عام 1964م بتحقيق توفيق فهد.. وحَسَب تقاربِ مخارِج الحروف ما بين النطق العربي والخواجي يرد اسمه (أَرْطاميدورس)، و(أرتاميدوس)، وعند فوكو (أرتيميدور).. وقد عاش في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وأخذ فوكو جانب الباءة من أجزاء كُتبِ (أرطاميدوس).. ولقد جعلتُ هذه السبتيات إيجازاً لبعض نتائجِ مشروعي المذكور آنفاً، وجعلته تأصيلاً لتعبير الرؤيا بإطلاق غيرَ مُقيَّدٍ بأحلام الباءة؛ لأن كتُبَ الأحلام لا تُحْصى كثرةً ما بين مطبوعة من تأليف العرب، أو مُترجمةٍ، أو مخطوطةٍ، أو بحوثٍ في الدوريات؛ ولهذا كان تعبير الرؤيا مادةَ شُهرةٍ وتمعلم في الفضائيات لعابرين لا يعرفون حال الرائي، ولا حال المرئي له، ولا معادلةَ لهم في فهم رموز الرؤيا فيما بين اليقين إلى الوَهْم.. ولا ريب أن من الأحلام رؤيا حقٍّ تكون بُشْرى تتأكَّد للمؤمن الصدوق، وتكون إنذاراً لعموم البشر.. وتعبير الرؤيا من الفقه المستنبط من شرائع الله.. ومن وحي الله لأنبيائه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته ما هو رؤيا حقٍّ في المنام.. وكم من رؤيا وقعت لصاحبها في الدنيا، أو رآها أحدٌ من الناس؛ فوقعتْ بعد موته، أو موت من رآها، وعَبَرَها وأخبر بهافي حياته، أو كان حيّْاً فأخبر بها بعد وقوعها.. وكان وقوعُها طِبْقَ الرموز التي رآها أو رُؤيت له؛ ولهذا كانت الأحلام هَمَّاً بشريَّاً منذ وُجِد البشر؛ فقد تجلب الحزن والقلق، وقد تكون لذيذة لكنها من أمانيِّ الغرور يتعلق بها الرائي مدى حياته؛ فتتحول إلى أحلام يقظة قد تتطور فتكون انفصاماً وازدواجاً في الشخصية، وقد لا يعبأُ بها ويَتَّخِذُ منها تخيُّلاً أدبياً أو فنياً من فنون اللامعقول؛ فينتهي إلى هلوسة الإباحية والعدمية.. وبما أن الروح من أمر ربي، وأن الأحلام علاقةٌ بين الروح والجسد، وبما أنها عِلمٌ شرعيٌّ وهَمٌّ بشري: فيلزم التعاملُ معها وَفْقَ التعليم الشرعي المنزَّل من عنخالقها جل جلاله.. والأحلام تكون في النوم بإدراك الحواس مباشرة، وبحضور عقل يفهم ما رأى.. إلا أن الرؤية والإدراك لم يكونا قصداً بترائي نظر العين، وتأمُّلِ الفكر بنظر البصيرة؛ فهذا إنما يكون في اليقظة؛ وإنما هي رؤية عن غير قصدٍ وإعمالٍ للبصر والبصيرة؛ ولهذا عُبِّر عنها بالرؤيا؛ لأنها إيراءٌ من غيرك؛ فهي رؤية بعد إيراءٍ وليست رؤيةً مباشِرة عن قصدٍ، ومِن غير والرأي مَصْدَرُ رَأَى برؤية العقل ورؤية العين معاً فتقول رأيت بقلبي أو بعقلي رأياً ورأيت بعيني رأياً؛ فأما رأيُ العقل والفؤاد فأمر مشهور، وأما رأي العين فقد ورد فيه قول ربنا سبحانه وتعالى (وهو مُعَلِّم اللغات جلَّ جلالُه: يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [ سورة آل عمران/ 13] ولكن استقر العرفُ على أن يكون الرأي اسماً لما رآه العقلُ مُجَرَّداً من مصاحبةِ نظر العين؛ وإنما يتأمَّل ما عرفه من حواسه بما في ذلك ما عرفه بحاسة العين، فيكون الرأي اسماً لما أدركه العقل ويكون الرأي أيضاً مصدراً لعموم الحدث الذي يقع أو سيقع؛ ذلك أن المصدر تؤخذ منه دلالة التسمية على الأحداث التي وقعت.. واستقرَّ العرف على جعل الرؤية مصدراً نائباً عن إدراك العين، واسماً للحدث الذي رأته العين في الماضي، كما عُلِمَ باللغة أن الرؤيا اسم لما أَراك إياه غيرُك، فتقول: رأيت في النوم رؤيا خير إن شاء الله؛ فقولك: (رأيتُ) بالنسبة لما أدركتَهُ بنظر العين مصحوباً بإدراك فؤادك، وتقول: (رؤيا خير) بالنسبة لمن أراك؛ إذْ لم تكن رؤيتك قصداً مباشراً، بل هي إيراء من غيرك.. وينبني تأصيلي على العناصر التالية:
العنصر الأول: التفريقُ بين حالات المنامات وما يشابهها؛ فهي في عمومها حُلْم، ومنها أضغاث لا تعني شيئاً، ومنها حديث نفس تُعيده إلى الحالِم الذاكرةُ سواءٌ أكان ذلك استرجاعاً للماضي، أم اسْتِشْرافاً للمستقبل.. ومنها الرؤيا التي هي مَحَلُّ التعبير المُؤَصَّل؛ فالحلم الذي ليس له رموز منضبطة هو الذي وصَفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلَعُّب الشيطان، وليس له علاقة بحديث النفس بأمشاجه التي سأذكرها إن شاء الله، ومن أمثلة الدلالة على التَّلَعُّب أن يرى رأسه مقطوعاً ولسانه يلعب، وجثته عنه قيد رُمْح، ويرى خرزات ظهره؛ فهذا الحُلْم مُحالٌ في الواقع؛ فكيف يرى نفسه بهذه الحال، ويرى ما لا يرى في حياته كخرزات ظهره؛ فصح أن المرئيَّ غيرُ الرائي؛ وإنما هو تصوير من الشيطان ليروِّعه أو يتلاعبُ بعقله.. وهناك أحلام تُسَمَّى حديثَ النفس؛ فمنها ما يكون تذكُّراً لمراحل حياة الإنسان: إما لما مرَّ في حياته من ذِكْريات مُفرحة أو محزنة، وإما أن تكون لما يُعانيه من مسائل فكرية أو علمية لم يَبِتَّ فيها بعدُ برأي قاطع، وإما أن تكون عن شيئ أقلع عنه تديُّناً ولكنَّ ذكرياتِه ممتعةٌ في وجدانه، وإما أن تكون إشفاقاً أو أُمْنيةً لذيذة لولده أو زوجته أو صديقه أو أحد والديه أو أقربائه؛ (وتلك هي الرغائب والمخاوِف)، وإما أن تكون حالةً مقترنةً بنومه في الزمان كمن أوى إلى فراشه والسماء غائمة تزحف فيها سحابٌ داكنةٌ مثقلةٌ تمشي ببطء؛ فهي تُبشِّر بهطول أمطار غزيرة؛ فإذا أخذه النوم سمع رعداً، ورأى برقاً ومطراً وأودية تجري.. ورُبَّما رأى كل نبات الربيع؛ لأن المنامات تختصر الزمان والمسافات.. وبعض هذه المنامات قد لا تكون على نسق زماني ومكاني؛ فقد يتجمَّع تذكُّرُه من أشخاصٍ ووقائعَ عاشها في القاهرة مثلاً، وأخرى مشابهةً عاشها فيما بعد في الرياض، وثالثةً مشابهة عاشها في مسقط رأسه؛ فيتَّحِدُ سياقُها زماناً وإن لم يتَّحدْ مكانُها، ولكنها لا تنفصل عن ذكريات النفس، وإنما جمَّع له الحلمُ من أشتات ذِكرياته زماناً ومكاناً سياقاً واحداً؛ لأنه ألصقُ برغباته أو تخوُّفاته.. ورؤيا حديث النفس لا تحتاج إلى رموز دالة، بل الدلالةُ قائمة مِمَّا هو في ذاكرةِ ذي الحُلْم التي استرجعتْ له في النوم شريطَ ذكرياته.. ومِمَّا يجلب المَلَلَ أن أذكر نموذجاً لكل صورةٍ مِن صُوَر حديث النفس؛ وإنما أذكر ثلاثةَ أمثلةٍ قد يمتدُّ فيها الحلم بعد اليقظة: بأيكون الحلم حديثَ نفسٍ ملازماً في أيامٍ أو أعوام؛ فيكون من أحلام اليقظة؛ ولهذا يكون بعضُ حديث النفس من الحُلْم من تَلَعُّب الشيطان؛ لأن النفس أمَّارةٌ بالسوء، أو من تجميع الشيطان، ومن الشياطين القرينُ المُلازمُ الفردَ مدى حياته؛ لِيُغْرقه بالمخاوفِ أو أمانيِّ الغُرور؛ فمن نماذج حديث النفس أن يُقلع الفرد عن سماع الغناء ولاسيما المصحوبُ بالآلات الموسيقية؛ فلا يُصغي إليه مستمعاً، ويتجاوزه إذا بُلي به سماعاً إما بِوَأْده إن كان ذلك في قدرته، وإما بمغادرة المكان، وإما بالعكوف على التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل سراً.. ثم يسمع في النوم غناء طروباً على الآلات الموسيقية، ويتفاعل مع الصوت، وربما صحا وصدى اللحن في ذاكرته، وربما نظم عليه قصيدة، أو حَوَّل إليه قصيدة مأثورة يترنَّم بها بعض المرات بلا آلات لهو؛ فهذا ذكريات بلا ريب، وهي من حديث النفس، ولكنْ فيها تسويلٌ من النفس أو الشيطان بأن تعود حليمة إلى عادتها القديمة.. وهذا الحُلُمُ وأحلام أُخرى مماثلة سأذكرها إن شاء الله في السبتية اللاحقة، وقد بُليتُ بهذه الأحلام ولكنَّها جزءٌ من سورياليتي، وبعضها أنال به أجراً من ربي وبعضها يبسطُ للفرد الأُنس في حياته، فيزكو عقله ووجدانه، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.