أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أقولُ ذلك ولا أَحْنَثُ لو أقسمتُ بالله قسماً مشحوناً بصيغ التأكيد؛ لأنَّ ذلك خبرُ الرؤوف بالعباد سبحانه وتعالى، وهو خبر أقسم الربُّ على صدْقِه بثلاثة أقسامٍ أسلفت لكم في الأسبوع الماضي تفصيلها ودلالتها..
ولقد مّرَّ بي في كتاب (النجومُ الزاهرةُ في أخبار مصر والقاهرة ) أنَّ أحدَ الفضلاء الورِعينَ لَمَّا سمع قولَه تعالى المُؤَكَّدَ بكل صِيغِ التأكيد: اِحْمَرَّ وجهه، وزَحفَ نحو القِبلة من غير شعور، وقال مَن الذي أغضب الجليل [سبحانه وتعالى]؛ فإنّْا واللهِ لَمُصَدِّقوا ربَّنا بغير قسم.. ولقد تناولتُ هذه المسائل عن أوامر الرب سبحانه وتعالى بالدعاء، وضمانتِه الإجابة، ووعيدِه مَن لا يدعوه؛ (وهي أوامرُ إيجاب) بهذه الجريدة بتوسُّعٍ في الأسبوع الماضي.. وكان مِنْ دعائي وتضرُّعي أنْ قلتُ: وتعلم يا ربي أنني ما أحببتُ أحداً إلا مِن أجلك وإنْ كنتُ أحْقِر نفسي أنْ لم أكنْ مِثْله:
أحِبُّ الصّالحينَ ولَسْتُ مِنهم
لعلِّي أنْ أنـالَ بهم شَفَاعهْ
قال أبو عبدالرحمن: في موضع آخر يأتي هذا البيت هكذا:
وأكْرَهُ مَن تجارته المَعاصي
ولو كنا سواءً في البضاعة
وهو منسوب إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وحاشى للإمام الشافعي أنْ تكون بضاعته المعاصي؛ فإنْ صحَّ أنَّ هذا الشعر له فهو من المبالغة غير المحمودة في التواضع، والله نهانا أنْ نُزَكي أنفسنا، ولم يأمرنا بظلمها وتهزيلها.
قال أبو عبدالرحمن: لستُ مُتَفَرِّغاً الآن لتحقيق الروايات عن نصِّ هذا البيت وإن كان ذلك مَيْسُوراً في الأنترنتْ، ولا في تحقيقِ اسمِ مَن نُسِب إليه البيت؛ فقد نُسِبَ إلى أَكْثَرَ مِن واحد، وحسبي ههنا أن البيت من بحر الهزج الصحيحِ السالِمِ الذي لا أختارُ غيَرهُ هكذا: (وأرجو أنْ أنالَ به شفاعة).. وأرجو من فضيلة الشيخ الدكتور الذي أسلفتُ الإشارة إليه تحقيقَ صياغةِ البيت؛ وذلك لتحقيق ضرورتين:
الأولى: أنَّك إذا أحلتَ إلى فعلٍ، وهو ههنا الجارُّ والمجروُرُ (به)؛ فذلك إحالةٌ إلى الفعل (أُحِبُّ)؛ فلا يكون النَّصُّ إذا قَدَّرْته هكذا (لَعَلِّي أن أنالَ بـ(أُحِبُّ)، بل يكون التقدير: (لَعَلِّي أَنْ أنالَ شرعاً بحُبِّي إياه مَغْفِرَةً)، فقد يَرْتَدُّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ في الله عن دِينه، ويموتُ مُرْتَدّْاً؛ فَيَأْجُرَك اللهُ سبحانه وتعالى، ولا تكون له شفاعة؛ لأنه لا شفاعةَ يوم القيامة إلا بشرطين هما: إذْنُ الله بالشفاعة، ورضاه سبحانه وتعالى عَمَّن يَشْفع، وليس مَنْ مات مُرْتداً مُرْتضىً من الله، بل هو مِمَّنْ يقول الله سبحانه وتعالى له: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [سورة المؤمنون/ 108].. وَمِثْلُ ذلك الارْتِدادِ حصل كثيراً ويحصل الآن أكثرُ.. قال أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن الجوزي: ((عبدة بن عبد الرحيم.. كان من أهل الدين والجهاد.. أنبأنا زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال: سمعت أبا الحسين بن أبي القاسم المذكِّر يقول: سمعت عمر بن أحمد بن علي الجوهري يقول: أخبرني أبو العباس أحمد بن علي قال: قال عبدة بن عبد الرحيم: خرجنا في سرية إلى أرض الروم؛ فصحبنا شاب لم يكن فينا أقرأَ للقرآن منه، ولا أفقه ولا أفرض، صائمُ النهار، قائم الليل؛ فمررنا بحصن، فمال عنه العسكر، ونزل بقرب الحصن، فظننا أنه يبول، فنظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصن، فعشقها، فقال لها بالرومية: كيف السبيل إليك؟.. قالت:(حين تَتَنصَّرُ، ويُفْتح لك الباب، وأنا لك ).. قال: ففعل، فأدُخْلِ الحصن.. قال: فغضب [لعلَّها: فَغُمَّ] غزاتنا في أشد ما يكون من الغمِّ.. كأنَّ كلَّ رجل منا يرى ذلك بولده من صلبه!!.. ثم عدنا في سرية أخرى، فمررنا به ينظر من فوق الحصن مع النصارى، فقلنا: يا فلان ما فعلتْ قراءتُك؟.. ما فعل علمك ؟.. ما فعلتْ صلواتُك وصيامك؟.. قال: اعلموا أني نسيت القرآن كله ما أذكر منه إلا هذه الآية: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[سورة الحجر/ 2- 3].)).. ولَقدْ توهَّم الحافظ ابن كثير رحمهما الله تعالى في كتابه (البداية والنهاية ): أنَّ المرتَدَّ (عبدة بن عبدالرحيم)، وقال: (قبحه الله )، ثم أحال إلهذا الموضع من كتاب المنتظم!!.. قال أبو عبدالرحمن: إنَّ المرتدَّ شاب لم يذكر عبدةُ اسْمَه، وعبدة على ما هو عليه من الصلاح والعلم.. انظر كتابَ (المُنْتَظِم في تاريخ الملوك والأمم) لابن الجوزي / دار الكتب العلمية بلبنان، و(البداية والنهاية) لابن كثير 14 /640-641 «دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع بالرياض» طبعتهم الثانية عام 1424 هـ.. والبرهانُ على أنَّ مَنْ رجا ربَّهُ أنْ ينالَ بحبِّ الصالحين شفاعة مُحَقَّقُ الإجابة بخلاف مَن رجا ربَّه أنْ يَشْفَعَ له مَنْ كانوا أوَّلَ الأمر صالحين؛ فأحَبَّهم: أن ذلك توسُّلٌ بالعملِ الصالح؛ وذلك هو ابتغاءُ الوسيلة كما أسلفتُ لكم في السبتية السابقة؛ ذلك أنَّ هذه الوسيلة هي أنَّ حُبَّهُ الصالحين مِن أجلِ الله؛ فهو مِمَّنْ حُبُّهمْ لله وحده، وقد حقَّقَ الله سعادتهم كما في قصة أصحاب الغار، وهو حديث صحيح صريح.
قال أبو عبدالرحمن: وصدرت كتبٌ تجاهِرُ بالاستهزاء بالله جَلَّ جلالُه، وتقَدَّست أسماؤه، وتهزأُ بشريعة الله ودينه المعصوم خبراً وأمراً ونهياً، وشرائعه خبراً، وما هو مِن الأمر والنهي بدلالةٍ خارجية غيرِ صيغة الأمر والنهي بأسماء سعودِّيين، وكانوا كشفوا عن هُوُيَّتهم في الأنترنت، وزعموا أنها طبعت بِجُدَّة، وأكثرها صادر عن مؤسَّسَةِ التثقيف الجنوبي في حوض البحر الأبيض المتوسِّط، وهي مؤسسة صهيونية بسطتُ القولَ عنها في هذه الجريدة.. وذلك الحبُّ المُحالُ إليه هو حُبُّ الشفقة كحبِّ الوالدين الكبيرين، وحبِّ الضعفاء والفقراء، وحبِّ الأطفال لضعفهم وفي ذلك أجر كبير.. وهو غير حُبِّ الزوجة رحمةً ومودَّة، وفي ذلك أيضاً أجر كبير، وغيرِ مَحَبَّةِ الجمال، وحبِّ الشهوة (البائيَّة)؛ فذلك جِبِلَّةٌ؛ فإن كان ذلك حُبّْاً للجمال فذلك له أجر مضاعف؛ لأنه اعتصم بالله ثمَّ به عن ارتكاب المُحَرَّمات، وغيرُ حُبِّ الطفل لجمال لُثْغتِه، أو لطافة حركاته؛ فذلك ليس عبادة ولا شركاً؛ وإنما هو عادةٌ؛ فإن أراد التَّقَوِّيْ بذلك على فعل الخير؛ فذلك دافعُ خير؛ فأجره داخل في أجر إرادة الَّتقوِّي.
والضرورة الثانية: أنَّك إذا أردت تقدير الكلام فيما أحَلْتَ إليه لا تقول: (لعلِّي أنْ أنالَ بـ(أُحِبُّ)، بل تُقدِّرُ الاسمَ مِن الفِعْلِ؛ فتقول: (لعلي أنْ أنالَ بُحُبِّهِ شفاعة).. هذا قانونٌ لغويُّ لا أعلم فيه خلافاً، ولا يُعْقل فيه أيُّ وجهٍ يُسَوِّغ خلافَه، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.