د.عبد الرحمن الحبيب
في فلسفة المفاوضات السياسية ثمة صقور وحمائم.. من يرى أن عدم الاتفاق أفضل من اتفاق سيء يتم فيه استعجال خاطئ للحل، ويجب فرض الحل بالقوة. ومن يرى أن اتفاقاً سيئاً أفضل من لا اتفاق لأنه على الأقل سيخفف من الأزمة وقد يهيئ الظروف السلمية للحل.
بعد طول جدال ومناورات مارثونية توصلت دول (خمسة زائد واحد) لاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني؛ فطفقت المنطقة بـ»مقالات الموقف» غير التحليلية. في طهران استُقبل ظريف استقبال الأبطال في وقت أظهر المحافظون الإيرانيون خيبة أملهم فيه باعتبار الاتفاق هزيمة. وفي عالمنا العربي طرحت نقاشات على أساس أن هذا الاتفاق نهائي مع خلط كبير في فهمه، وتم على أساسه اتخاذ الموقف مع أو ضد أو بين بين..
هل تم هذا الاتفاق بين الغرب وإيران على حساب دول المنطقة الأخرى أم أنه سيؤدي إلى التهدئة وتحسين المناخ من أجل استقرار المنطقة؟ لاتخاذ الموقف المناسب لنا في العالم العربي، ولا سيما دول الخليج العربية، ينبغي تحليل هذا الاتفاق بالتعرف على طبيعته، وأهدافه، والعمليات التي ستنتج عنه، ومدى جدية الالتزام به.
طبيعة هذا الاتفاق أنه مبدئي وليس نهائياً، أو كما ذُكر هو اتفاق إطاري وليس شاملاً؛ فالاتفاق النهائي الشامل سيكون بعد ثلاثة أشهر؛ في حينها سيكون الاتفاق تاريخياً. لم يتم بعد الاتفاق على التفاصيل أو على الأقل لم تعلن وما زالت سرية. يمكن تلخيص أهداف هذا الاتفاق بثلاثة: خفض نشاط البرنامج النووي الإيراني لمنعه من إنتاج قنبلة نووية، وتسهيل مراقبته؛ مقابل رفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية على إيران.
أما الأعمال التي ستتم لتنفيذ هذه الأهداف، فهي: خفض أجهزة الطرد المركزي بنحو الثلثين. ويجب على إيران خلال 15 عاماً أن تلزم بالتالي: عدم تخصيب اليورانيوم بنسبة تزيد عن 3.67 بالمائة؛ خفض المخزون الحالي لليورانيوم ضعيف التخصيب من طن إلى ثلاثمائة كجم؛ عدم بناء منشآت جديدة لتخصيب اليورانيوم؛ عدم تخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو، وعدم وجود مواد انشطارية فيها، وعدم إجراء أبحاث تتعلق بتخصيب اليورانيوم فيها؛ تخصيب اليورانيوم فقط باستخدام الجيل الأول من أجهزة الطرد المركزي في مفاعل ناتانز لمدة عشر سنوات مع إزالة أجهزة الطرد المتقدمة؛ وأخيراً، خضوع منشآت التخصيب الإيرانية لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إذا التزمت إيران بهذه البنود، ستقوم كل من أمريكا ودول أوروبا بتعليق العقوبات الاقتصادية المتعلقة بالملف النووي الإيراني، كما ستعلق الأمم المتحدة كامل القرارات الصادرة بشأن البرنامج النووي لطهران. وترفع العقوبات فور أن تتأكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية على احترام إيران لتعهداتها، ويعاد فرض هذه العقوبات إذا لم يطبق الاتفاق، كما سترفع كل العقوبات المفروضة بموجب قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي إذا ثبت احترام إيران لكل النقاط الاساسية في الاتفاق.
حسناً، هذا اتفاق جيد، لكن هل ستلتزم إيران به؟ إذا كانت الإجابة متروكة للمستقبل، فإن الماضي لا يشجع على الثقة بالتزام إيران لأنها غالباً تضع نفسها كمتمردة على المجتمع الدولي. فالاتفاق نفسه أخذ نحو سنة ونصف السنة من المراوغات الإيرانية. وإيران لديها نهج متوتر مع النظام الدولي، يمكن تسميته سياسة حافة الهاوية. وهي أنها تعاند المجتمع الدولي حتى اللحظة التي تشعر بقرب انهيارها بتلك النقطة فتتراجع وتتنازل، لكنها تعود لنهجها بعد تحسن موقفها..
إيران في ذلك تستخدم خطاباً مزدوجاً بإتقان، إذ تقول الشيء ونقيضه.. تقول شيئاً للإعلام الغربي وتقول نقيضه للإعلام الإقليمي والمحلي. وحتى هذه اللحظة لا يزال بعض ساستها يقولون إنهم لم يقدموا أي تنازل في الاتفاق، ولن يسمحوا بخفض نشاط برنامجهم النووي! لكنهم يقولون ذلك للإعلام الإقليمي والمحلي فيما يقولون شيئاً آخر للإعلام الغربي.. تلك إشارة غير مطمئنة، يمكنها إن صحَّت أن تجعل الاتفاق حبراً على ورق.. وما أكثر هذا النوع من الاتفاقات الدولية!
ليس هذا فحسب، بل إن السياسة الإيرانية عموماً، تتبع نهجاً غير ودي إن لم يكن عدائياً لدول الجوار خاصة الخليجية. فمن الطبيعي أن تبدي دول الخليج العربية حذرها من هذا الاتفاق، ولديها الواقع من سياسة التوسع والتدخل الإيراني تجاهها. من حق هذه الدول الخليجية إذا استمرت السياسة الإيرانية على نهجها أن تفكر بأن يكون لديها أيضاً برنامجها النووي كقوة ردع.
بيد أنه يمكننا أن نأمل بأن تُعدِّل إيران من سياسة حافة الهاوية إلى سياسة التعاون أو على الأقل التهدئة، في ظل حكومة روحاني التي يبدو أنها أكثر اعتدالاً من حكومة نجاد السابقة، وإن كان القول الفصل بيد خامنئي. فهل يعي العقلاء في إيران حجم دولتهم ويركزوا على التنمية فيها، وتصفية الأجواء مع الجيران والعمل على المصالح المشتركة معهم بدلاً من تصدير الاضطرابات لتخفيف المتاعب الداخلية لديهم. تخفيف متاعب إيران الداخلية يتم عبر انعاش اقتصادها لا سيما بعد هذه الصفقة التاريخية مع الغرب التي ستمكنهم من فك العقوبات الاقتصادية عليهم ودخولهم الاقتصاد العالمي وإمكانية اندماجهم مع المجتمع الدولي..
إذا كان الاتفاق مهماً فإن تطبيقه هو الأساس مع دولة تقول شيئاً وتفعل خلافه، لذا عليه أن يكون ملزماً ويمتلك أدوات الإلزام، فعندما تلقى الملك سلمان اتصالاً هاتفياً للطمأنة من الرئيس الأمريكي أوباما الذي عبر فيه عن التوصل مع إيران إلى اتفاق إطاري بشأن ملفها النووي، مبدياً حرص أمريكا على السلام والاستقرار في المنطقة، أجابه الملك سلمان عن أمله في أن يتم الوصول إلى اتفاق نهائي ملزم يؤدي إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
المفاوضات السياسية تتطلب فن ترتيب ما يمكن التنازل عنه مقابل ما يمكن الحصول عليه. لذا يصعب الحديث عن انتصار كامل في أية مفاوضات طالما هناك تنازل، رغم أن السياسي المخضرم في الاتفاقات الدولية جيمي كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق، يقول: «ما لم ينتصر كلا الجانبين، فلا يمكن أن يكون هناك اتفاقاً دائماً.» فهل تنتصر الرغبة في سلام مع الجيران والتركيز على التنمية لدى الإيرانيين لصالح خير الجميع، أم أن دول الخليج المسالمة مضطرة لإظهار مخالبها لهذا الجار المزعج؟