د.عبد الرحمن الحبيب
تَوَقعَ خبير علمي فلكي أن موجة الغبار الأخيرة التي تواصلت لأيام ستستمر بمنطقة الرياض، فانقشع الغبار في اليوم ذاته. أن يتوقع خبير ما بشيء لا يحدث ذلك أمر اعتدناه ونتسامح معه، أما أن يحدث عكسه فهذا مجال للتندر واستخفاف بالعلم والعلماء في المجالس.
الخبير الفلكي عبد العزيز الشمري، عضو الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك، توقع قبل بداية شتاء هذه السنة، هطول أمطار غزيرة في الشتاء، لم يشهد لها مثيل منذ 40 عاماً على منطقة الجزيرة العربية، نتيجة لتأثير الدورة الشمسية 24 التي بدأت في العام الحالي، على الأرض. لم يكتف الشمري بذلك بل أرسل تحذيرات عارمة كالسيول التي توقعها محذراً من خطورة السيول على مدينة الرياض، وأن الخطر يشمل محافظة الخرج، محدداً بكل ثقة ودقة جامعة الملك سلمان التي بنيت داخل الوادي دون حماية! (صحيفة الرياض وسبق).
الأمطار التي نشهدها الآن أتت متأخرة في الربيع، وهذه لا تحتاج إلى توقع لأنها تحدث كل سنة تقريباً؛ إنما الشتاء انتهى وكان من أقل الأمطار التي سجلتها الأرصاد إن لم يكن أقلها على الإطلاق. فماذا يقول الشمري لمن استعد سواء للمزارعين أو أصحاب طلعات البر أو محلات بيع الملابس الشتوية ومستلزمات رحلات البر؟
وكان الباحث الفلكي الدكتور عبد الله المسند قد نفى حينها أن تشهد هذه السنة أمطاراً لا مثيل لها طوال أربعة عقود، قائلاً «هذا الكلام لا تدعمه الأرقام ولا الأشكال العلمية، وسبق أن تحدثت مع الزميل عبدالعزيز -حفظه الله- وقلت له لا توجد علاقة بين الدورات الشمسية والدورات المطرية إن صح أن لدينا في جزيرة العرب دورات مطرية».
القول بالدورات المطرية يستند غالباً على مؤشرات إحصائية لفترات هطول المطر عبر فترات زمنية.. بعض المناطق لديها مؤشرات إحصائية عبر السنين قليلة التذبذب وبالتالي يمكن التوقع التقريبي من خلالها، بينما بعض المناطق لديها مؤشرات متذبذبة جداً، يصعب التنبؤ من خلالها..
خذ مثلاً، مدينة الرياض مرت منذ عام 1961 حتى 2011 بفترات سنوية متقلبة كانت بها كمية الأمطار أقل أو أعلى من المعدل العام للخمسين سنة وهو تقريباً 84 ملم. ومنذ عام 2002 حتى عام 2007 كانت فترة أقل من المعدل العام، لذا توقع بعض الخبراء مع عام 2009 انتهاء هذه الفترة والانتقال لفترة يزيد فيها الهطول عن المعدل. تزايدت هذه التوقعات وتحولت إلى عادة مستشرية على اعتبار أن الزمن «الإحصائي» للفترة قليلة الأمطار لا بد أن ينتهي، لكن حتى الآن فإن الكميات للسنوات التالية هي أقل من المعدل العام. إنه مثل توقعك لشقلبة عملة معدنية: خمسون بالمئة صورة وخمسون بالمئة كتابة، فإذا تكررت إحداهما فأنت تتوقع أن التالي سيكون أكثر احتمالية للأخرى.. لكن هذا التوقع وهمي لا علاقة له بالواقع..
الخبير الشمري اجتهد بحرص، ولم يستند على المؤشرات الإحصائية فقط بل على مؤشرات جوية كمنخفض البحر الأحمر والسودان والبحر الأبيض المتوسط، وكوجود بعض السحب المنخفضة وهطول الأمطار على منطقة المدينة المنورة مع نهاية أغسطس الماضي، إلا أن اجتهاده لم يصب. يقول عالم الطبيعة الأمريكي ديفيد دوجلاس: «إذا تعارضت الحقائق مع أي توقعات، فإن الفرضية خاطئة بغض النظر عن مدى جاذبيتها.» فليراجع المتوقعون فرضياتهم التي بنوا عليها توقعهم إذا عارضتها الحقائق!
ما قاله المسند عن عدم علمية التوقعات السابقة يقودنا إلى اللغة غير العلمية المستخدمة من قبل كثير من الفلكيين.. لغة تنتمي للقرون الوسطى مثل القول إن هذا الوقت مناسب للزراعة (هكذا بالإطلاق)، أو هذا وقت غرس العنب، أو وقت خروج الهوام السامة.. هل هذا طرح علمي؟ فوقت الزراعة يختلف بين المحاصيل فلا بد من تحديدها، ولا بد من تحديد المنطقة ولا يترك الأمر مرسلاً كأن العلوم البيئية والزراعية غير موجودة! الهوام السامة؟ أية هوام؟ وهل الهوام غير السامة ستظل نائمة!؟ أين علم الحشرات عن هذا الطرح؟
الدكتور خالد الزعاق نابه نصيب كبير من هذه التوقعات لكنه سرعان ما نفى ما قيل على لسانه باعتباره فهماً خاطئاً لما قاله. إلا أنه في موجة الغبار الأخيرة ذكر أنها ستستمر، فحدث أن انقشع الغبار في اليوم ذاته، لكن يبدو من سياق الخبر أنه لم يقل ذلك بل فُهِم خطأ.
أخطاء التوقع أو حدوث عكسها ليس خاصاً بالطقس، بل يشمل خبراء التوقع في الاقتصاد، والسياسة والاجتماع وغيرها. كل يوم يطالعنا «الخبراء» بتوقعات كبرى بشتى الموضوعات، كثير منهم يقومون بتوقعات عديدة ومختلفة، وحين يقع أحدها يُهلل له باعتباره توقعاً فذَّاً من خبير حكيم! بالمقابل لا تقع أغلب التوقعات ويطويها النسيان فلا يُحاسب صاحب التوقع.
لماذا لا يُحاسب أصحاب التوقعات الكبرى؟ لكن ليس في رومانيا، فمن الطريف أن المشرعين قرروا أن قارئات البخت ينبغي أن يدفعن غرامة أو السجن إذا لم يصح توقعهن. الساحرات جن جنونهن، وهددت أشهرهن بأنها ستعمل للمشرعين عملاً من براز قط وجثة كلب! أما الاقتصادي رولف دوبلي فيقترح أن يدفع صاحب التوقع ألف دولار مقدماً لصندوق خيري، فإن نجح توقعه أعيد له ماله، وإن فشل فيذهب المال للصندوق.
منذ حوالي خمس سنوات وحكاية التوقع بهطول أمطار غزيرة غير مسبوقة أو أكثر من المعدل العام تتنامى بينما حصل العكس. فهل هناك مقترحات لعقاب من يفشل توقعه.. أظن أن الاعتذار ثم التوضيح قد يكون كافياً، لكن ليكن التوضيح بلا مبررات. أيضاً التندر والاستخفاف قد تكون عقوبة كافية لمن ينقلب توقعه رأساً على عقب.
أخيراً، كيف نتعامل مع توقعات الخبراء؟ سأطرح ما استخلصته من آراء خبراء التنفيذ وليس التوقع. بداية أسأل نفسك: ما هو موقع خبير التوقع: نجم إعلامي، أكاديمي، حكومي؟ الأول معتاد على الإثارة، الثاني صاحب نظريات علمية، الثالث حذِر.. الدراسات تقول إن الثاني هو أقل المخطئين بينما الأول أبعدهم عن الصواب. بعد ذلك راجع قدر ما تستطيع (جوجل أمامك) التوقعات السابقة للخبير، هل هي متسقة أم متفاوتة أم متناقضة؟ بالأخير، والأهم راجع ما مدى نجاح توقعاته السابقة، ستُفاجأ أن بعض الخبراء سيحصل على درجة صفر..