دومينيك مويسي
باريس
عندما سمعت خبر اغتيال السياسي الروسي بوريس نيمتسوف في موسكو تذكرت محادثة دارت بيني وبين شخصية سوفييتية رفيعة المقام قبل سقوط سور برلين.
كنا نسير وحدنا في المنتزه في فرساي نتحدث بصفة عامة عن القرن العشرين ومآسيه عندما تلفظ ضيفي السوفييتي فجأة بكلمات ظلت باقية في ذهني منذ ذلك الحين: «لقد عانى الروس في هذا القرن أكثر من أي شعب آخر. فخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يتكبد أي بلد آخر مثل العدد الذي تكبدنا من الوفيات. ولكن السلطة السوفييتية، من خلال توليفة من عمليات التطهير والمجاعات القسرية، هي التي قتلت من أبنائها عدداً أكبر من أولئك الذين قتلهم كل أعداء روسيا مجتمعين».
الواقع أن مأساة روسيا هي أن تهديدها لنفسها لا يقل فداحة عن التهديد الذي تفرضه على جيرانها. ففي حين تواجه أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بشأن أوكرانيا تدور رُحى معركة أخرى أكبر وأكثر أهمية في نهاية المطاف داخل روسيا ذاتها، معركة تجعل ثقافة روسيا الغنية في مواجهة مع التضليل الوحشي الذي تتسم به سياستها.
ونظراً لطبيعة نظام بوتن، فالمرجح أننا لن نعرف الحقيقة وراء مقتل نيمتسوف أبداً. ولكن من المستحيل أن ندرس هذه القضية من دون أن نتصور أن مسار الاغتيال بدأ على نحو ما بشكل مباشر أو غير مباشر بالقرب من باب الكرملين.
الواقع أن بوتن استخدم ببراعة قصفاً دعائياً عالي الحِرَفية لتوسيع الهوة بين معتقدات أغلب الروس ومعتقدات أغلب الغربيين. والدعاية الرسمية التي تلعب على أوتار القومية العميقة هي المفتاح الذي يسمح للكرملين بإثارة مناخ من المغالاة في الوطنية والتعصب.
وبوسعنا أن نرى قوة الدعاية التي يمارسها بوتن في الطريقة التي تتردد بها أصداؤها إلى ما هو أبعد من حدود روسيا. في العهد السوفييتي كان من السهل أن نفهم كيف كان المثال الشيوعي قادراً على إغواء أصحاب الروح السخية، حتى بالرغم من وعده بمجتمع عادل وحر تبين في نهاية المطاف أنه كان كذبة. وما قد يكون شرحه أكثر صعوبة - بعيداً عن المصالح المالية والتجارية الفجة لمجموعة من الناس - هو لماذا يُظهِر كثيرون في أوروبا الغربية مثل هذا القدر من الانجذاب والألفة مع روسيا اليوم؟
قد يرى البعض أن التفسير قد يكمن في جاذبية معاداة الولايات المتحدة مختلطاً بالدفاع عن القيم المحافِظة ورفض «الانحلال» الليبرالي (ودليلهم الأول عليه هو القبول المتنامي في الغرب للزواج بين المثليين). وربما يبحث آخرون عن حليف في مواجهة تهديد أعظم. فكما دعا البعض الغرب إلى التعاون مع ألمانيا النازية في مواجهة ما اعتبروه التهديد السوفييتي الأشد خطورة، يدعم البعض اليوم بوتن باعتباره شريكاً في التصدي لخطر الإسلام المتعصب.
إن حلفاء روسيا في الغرب لا يحبون النظام الحاكم هناك بالضرورة - تماماً كما كان العديد من أنصار ألمانيا يمقتون النازيين - ولكن يبدو أنه لا يوجد بديل. ففي الأوقات العصيبة، وفقاً لوجهة النظر هذه، لا يستطيع المرء أن يختار حلفاءه. وبوسعنا أن نرى النتيجة في التحالف المنطقي تماماً بين الأحزاب الشعبوية في أوروبا، التي ترى أن التهديد الأعظم هو الاتحاد الأوروبي، وإمبريالية بوتن الرخيصة المفرطة في العاطفية.
في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي كنت محظوظاً عندما سنحت لي الفرصة للقاء شبان روس مثاليين مثل نيمتسوف. وكانوا يؤمنون بالديمقراطية وسيادة القانون، ولم يروا أن مثل هذه القيم غير متوافقة مع تاريخ وثقافة روسيا. وفي حماسهم وجرأتهم ذكروني بالجنرالات الشباب الذين قادوا الثورة الفرنسية. ولكن ساحة المعركة التي خاضها هؤلاء الشباب الروس كانت في عالم الأفكار، وكان نضالهم من أجل الحرية وليس الأرض.
وربما خسر هؤلاء المثاليون الشباب العديد من المعارك، ولكن الحرب لم تقترب من نهايتها بعد؛ فقد ارتفعت راياتهم من جديد، بعد فترة وجيزة من اغتيال نيمتسوف، عندما نزل عشرات الآلاف من الروس إلى الشوارع للتعبير عن احتجاجهم. وكانت غابة من الأعلام الروسية بمنزلة رمز قوي، ووعد بأن روسيا أخرى ربما كانت ممكنة، وربما لا تزال ممكنة.