الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد
فلم تزل المملكة العربية السعودية قلباً صافياً، وفراشاً ضافياً، ويداً معطاء، ونفساً كريمة، ووالداً مشفقاً، وأخاً نصيراً، وحكماً عدلاً، ومصلحاً كبيراً، للمسلمين في أصقاع الأرض، ولـذا يؤمل فيها المسلمون -بعد ربهم- خيرًا كبيراً، إن في صلاح دنياهم أو أخراهم، بما تقوم به من الدعوة إلى الله، ونشر عقيدة السلف، ومنهج أهل السنة والجماعة، وما تشرف عليه من هيئات ومؤسسات تقوم على إغاثة المسلمين، وتقديم الدعم للمنكوبين، وإيواء المتضررين، وما تتبناه من الدفاع عن قضايا المسلمين في المحافل كافة، وما تقدمه من وساطات وحلول للمسلمين المتنازعين، حفاظاً على بيضة الإسلام، وصيانة لدماء المسلمين وأموالهــم وأعراضهم وديارهم، يجلل ذلك كله: الرفق، والرحمة، والحكمة، والعدل.
وهذا توفيق من الله ببركة التوحيد الخالص والسنة الصافية، والاجتماع على الحق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، نسأل الله أن يزيدها أمناً وإيماناً، وأن يثبتها على الحق، وينصر بها الملة، ويقمع بها الشرك والبدعة.
ولا شك أن هذه المنزلة أغاضت الحاقدين على اختلاف مشاربهم والمستروحين إليهم السائرين في ركابهم، فعملوا ليلهم ونهارهم على تهديد أمنها، والنيل من عقيدتها، فما زادهم ذلك بفضل الله إلا إيماناً بربهم، وتسليماً لأمره وحكمه، وثباتاً على دينه.
وبالأمس استغاث إخواننا في اليمن بولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -وفقه الله وسدده وأعزه بطاعته- من شدة ما أصابهم من الحوثيين وأتباعهم وأعوانهم من الفرس ومن شاكلهم في طائفيتهم، ومن المنتفعين من الصراعات، دولاً كانوا، أو منظمات، أو عصابات، الذين عاثوا في الأرض فساداً، ونكلوا بمن خالفهم، ولم يزدادوا إلا ضراوة وتشبثاً بما هم عليه من الباطل والعدوان، ثم تطاولوا حين أخذهم العجب، فهددوا البلاد السعودية: بلاد الحرمين، ومأرز الإيمان، ومأوى أفئدة المسلمين، ولم يقبلوا صلحاً ولا سلماً ولا حواراً، ولم يتكلموا إلا بلغة القتل والتعذيب، ولم يرفعوا إلا آلة الحرب والعداء، فكانت إجابة النداء، وحفظ المقدسات والحرمات، فدك الله حصونهم، وهتك سترهم، وأنزل الرعب في قلوبهم، على يد جيشنا المبارك وحلفائه، زادهم الله إيماناً وتسديداً، وثبتهم، ونصرهم على القوم الظالمين.
وهذا الموقف وإن كنا قد استبشرنا جميعاً به خيراً، لكنه يتطلب منا أموراً، منها:
أولاً - حسن الظن بالله، والتوكل عليه، والصبر على قدره وشرعه، واستنزال النصر من عنده وحده، مع التوبة والاستغفار وكثرة الطاعة، فإن ذلك مما يرفع به البلاء، ويدفع به النقم، ويستجلب به النصر. قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51] وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160] وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان: 20]
ثانياً - عدم الإعجاب بالكثرة والقوة والغلبة، مستذكرين قول الحق تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] مع اللجوء إلى الله، والاستعانة به وحده، مستصحبين قوله تعالى عن الكليم موسى عليه السلام رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]
ثالثاً - عدم تمني لقاء العدو؛ فإن المرء لا يعلم مآل أمره، ولما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على القوّة والوثوق بها وقلة الاهتمام بأمر العدو، وكل ذلك مباين للاحتياط والأخذ بالحزم، ففي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُموهُمْ فَاصْبِروا)). وربنا سبحانه يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71].
رابعاً: الحرص على اللحمة الداخلية، وزيادة توثيقها، والبعد عما يضعفها أو يقوضها من أقوال أو أخبار أو تصرفات، حتى لا يكون نزاعاً فتذهب ريحنا.
خامساً: الوقوف مع ولي أمرنا وجنودنا، بدعائنا، والمحافظة على أمننا الداخلي، والإبلاغ المباشر لجهات الاختصاص عن أي ملاحظة أو شخص تظهر منه الريبة، وتحوم حوله الشبهة؛ لئلا يكون دسيسة أو يداً خفية تحاول زعزعة الأمن، وإثارة الرعب، كما نظهر للعالم التحامنا وتأييدنا لقائدنا وقواتنا في وسائل الإعلام والاتصال، وذلك من القوة التي يرهب بها العدو.
سادساً: البعد عن الشائعات استماعاً لها أو نشراً، وعدم الإصغاء للتحليلات أو الخوض فيها، أو التعرض لنقد من أناط ولي الأمر المسؤولية بهم، فإنهم مجتهدون مأجورون في الحالين، وليس عليهم سوى بذل الجهد والتحري، والتوفيق بيد الله وحده، وأما نحن فليس لنا من الأمر شيء كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]
سابعاً: كل مرابط له بشرى من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان عسكرياً، أم طبياً، أم مسعفاً، أم مهندساً، أم قائماً على التجهيز والإعداد والإمداد، مدنياً كان أو عسكرياً، في قوله: ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) متفق عليه، ولمسلم (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان) أي من الذي يفتنون الناس في قبورهم، فلا يفتن في قبره.
ثامناً: أذكر جيشنا المبارك بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. فهذا توجيه القرآن لكم بخمسة أمور تبتنى عليها قبة النصر، أولها الثبات عند اللقاء، بالوقوف للعدو والتجلد، فلا فرار ولا جبن ولا نكوص، وثانيها: الإكثار من ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، فتقوى الإرادة، وتشتد العزيمة، ويحسن التصرف مع المتغيرات والمستجدات الطارئة في ساحة القتال، ومنه دعاء الله والإلحاح في ذلك إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]، ومنها إقام الصلاة ولو في حال التحام الصفوف كما بينته السنة في صلاة الخوف. وثالثها: الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أكان ذلك في أمر الحرب، أو في غيرها، بامتثال الأوامر، والمحافظة على الفرائض، واجتناب المحرمات. ورابعها: ترك التنازع والاختلاف، الذي يضعف الشوكة، ويذهب بالهيبة، ويجرئ العدو. وخامسها: الصبر على مشاق القتال، وما يصيب من أذى العدو، وهو ملاكها وأساسها وقوامها.
تاسعاً: في هذا الموقف ينبغي استذكار نعمة الله علينا بالإسلام والاجتماع، فلو أن العدو جاء على حين فرقة منا واختلاف، فماذا عسى أن تكون حالنا؟ سنكون كغيرنا ممن تفرقوا واختلفوا، في رؤوس الجبال، وبطون الأودية، نستدفئ الصقيع، ونستبرد وهج الشمس، ونأكل أوراق الشجر، فرارا من الموت أو القتل، عياذاً بالله من ذلك.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونسأله أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر، كما نسأله أن يحفظ على بلادنا أمنها وإيمانها، ويوفق خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده، وسمو ولي ولي العهد، لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يجمعنا جميعاً على الحق، ويرد كيد الكائدين إلى نحورهم.
د. عبدالعزيز بن محمد السعيد - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية