د. محمد عبدالله العوين
ابتدأت حملات التصفية المذهبية للسنة وإعلاء شأن العرق الفارسي بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي في إيران على يد إسماعيل الأول الصفوي (1501م - 1524م الموافق 907هـ - 932هـ) الذي رأى أن مقاومة الدولة العثمانية السنية والأفغان السنة أيضاً لن يتأتى إلا بخلق هوية طائفية وعرقية يستطيع من خلالها الصفويون ترسيخ حكمهم في إيران وتمددهم خارجها؛ وهكذا بدأ إسماعيل في اتباع سياسة اضطهاد ممنهجة للسنة وللعرب وغيرهم من الأعراق الأخرى؛ فأجبر مئات الآلاف على اعتناق المذهب الإثني عشري الإمامي الجعفري، ولم يكن أمام من يرفض الانصياع لرغبة الصفويين سوى الرضا بالمصير المحتوم؛ وهو الموت أو النفي من الأراضي الفارسية، وتبع هذا التطهير المذهبي هدم المساجد والمقابر السنية والاستيلاء على الأراضي والتوسع في الاستيلاء على المدن والقرى حتى ضم العراق كله وأصبح شيعياً فارسياً منذ ذلك الوقت.
ولكي يعمق من ترسيخ المذهب الإثني عشري ويمكنه في عقول الإيرانيين استقدم علماء متمكنين في الوعي بالمذهب وفي استحضار حججه ومراجعه ومصادر أحكامه من شيعة جبل عامل في لبنان وسوريا والعراق والبحرين؛ فكان أن رحل إلى «تبريز» عاصمة الدولة الصفوية بدءاً من مطلع القرن العاشر الهجري مئات من الفقهاء الشيعة وتولوا الإفتاء والتدريس في الحوزات والتمكين لسلطة الحاكم الصفوي في بسط سلطته على مساحات شاسعة ومقاومة القوى السياسية الأخرى السنية كالأتراك والأفغان.
لم تكن إيران شيعية على مدى تاريخها الإسلامي الطويل قبل الصفويين؛ بل كانت سنية في معظم ولاياتها؛ ولكن الصفويين حولوها -لأغراض سياسية صرفة- إلى حالة متهيجة من التطرف الطائفي ضد السنة وحالة شوفينية مستعرة كارهة لكل الأعراق الأخرى غير الفارسية، ومنهم العرب بطبيعة الحال، وتتضح هذه المرجعية التاريخية الموثقة بالعودة إلى مصادر علمية عديدة؛ لعل منها مرجع علمي موثق هو كتاب «الشيعة» لمؤلفه د. هاينس هالم أستاذ العلوم الإسلامية بجامعة توبنغن بألمانيا (دار الوراق ببغداد، ط1، 2011م) يقول هاينس في كتابه: «ولم يكن هناك علماء شيعة كي ينشروا المذهب الشيعي، ولذلك كان الملوك الصفويون، وخاصة الشاه إسماعيل وطهماسب مضطرين إلى طلب المعونة من البلدان العربية، من جنوب العراق وجنوب لبنان ومن ساحل الخليج العربي، فجاء من هناك عدد كبير من العلماء الشيعة الذين بدؤوا بتكليف من الحكام بنشر وترسيخ العقيدة الشيعية في إيران».
ويمكن لنا أن نفسر سر العلاقة الوثيقة الآن بين شيعة جنوب لبنان ممثلين في «حزب الله» والارتماء الذليل لحسن نصر الله في الأحضان الإيرانية والتعبد بمديح المراجع والذب عن سياسيات إيران والدفاع عن مشروعاتها التوسعية وفي الوقت نفسه ممارسة الكذب والتضليل على العرب جميعاً بادعاء المقاومة وتزوير المواقف والسعي بطرق ملتوية إلى أن يكون الحزب في لبنان دولة داخل دولة وجيشاً آخر داخل جيش؛ بحيث يمكن القول إن سنوات التأسيس للحزب التي قاربت ثلاثة وثلاثين عاماً، أي بعد ثورة الخميني بسنوات ثلاث فقط استطاع أن يتمكن بالفعل من الهيمنة على القرارين السياسي والعسكري في لبنان بمؤازرة من العميل النصيري الآخر في دمشق الذي لم يخجل أبداً -على الرغم من التبجح بادعاء العروبة والممانعة ضد إسرائيل- من إعلان الأب حافظ أسد ثم ابنه الوغد بشار من الارتماء في أحضان الولي الفقيه المعصوم الحاكم بأمر الله في طهران وقم؛ وذلك اتكاء على الصلة التاريخية الوثيقة التي بدأ في نسج خيوطها الصفوي المجرم الأول إسماعيل حينما استقدم غلاة الشيعية الإثني عشريين من جبل عامل ومن سوريا ومن العراق ومن البحرين.
وحينما تعود إيران بعد ثورة الخميني إلى دفق روح الانتماء وإحياء الصلة القديمة مع الشيعة الإماميين العرب؛ فإنها أيضاً تسعى إلى تحقيق المطامع السياسية القديمة التي سعى إليها أجدادهم الصفويون الأوائل، وأتباعهم العرب الأغرار في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين وغيرها يطيرون في العجة بكل السذاجة والغباء!.