عبد الرحمن بن محمد السدحان
لست شاعراً ولا ناقداً للشعر، وربما راودني ذات يوم هاجس أن أكون كذلك، إلى أن جاء مساءٌ من ذات عام كنت خلاله أشارك في احتفال كبير بمدينة سانتاباربارا الأمريكية مع جمع كريم من علية القوم في بلادي يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية حفظه الله، وفقيدنا الكبير د.غازي القصيبي، رحمه الله، وكانت المناسبة تدشين مشروع كرسي أبحاث باسم جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود تغمده الله برحمته، بجامعة جنوب كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلوس، وكانت الغاية من الكرسي عقدَ دراسات وأبحاث معمّقة في مجال الدراسات الإسلامية والعربية، وقد لعب الدكتور غازي القصيبي دوراً محورياً في تأسيس ذلك الكرسي، مستفيداً من علاقاته المتميزة مع الجامعة.
* * *
* انتظم عقد الحفل في قاعة كبرى للاحتفالات تتصدرها منصة كبرى جلس فيها نخبة مباركة من أبناء هذا البلد، من بينهم معالي الدكتور غازي القصيبي، وكان يومئذ وزيراً للصناعة والكهرباء، في أول عهده بالوزارة، إلى جانب مدير الجامعة المستضيفة للكرسي.
* * *
* أما أنا فقد جلست في مكان غير بعيد من المنصة الرئيسة يُشاركني بعض ضيوف الحفل من المملكة، من بينهم الصديق الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الزامل، وكان يومئذ نائباً لمحافظ المؤسسة العامة للكهرباء، إن لم تخنّي الذاكرة.
* * *
* أرسلت ابتسامة تحية ومحبة من موقعي إلى حيث كان يجلس الدكتور غازي، ولا أتذكر الآن ما الذي حرّضني على (مناوشته) - رحمه الله - ببضع كلمات مما ظننته شعراً، وليس بشعر، ولكن شُبَّه لي، ثم طلبت من نادل الحفل تسليم ورقة الشعر (السدحاني) إلى الدكتور غازي، ورحت أتابع بإحساس واجف رد الفعل على قسمات وجهه، ولم يُخطئ ظني، فقد قرأ ما في الورقة، ثم ابتسم ابتسامةً تحمل أكثر من معنى، وهو يلوّح بيده محيّياً، قبل أن يكتب على ورقتي بيتين من الشعر الجميل يحثني فيهما على تجنُّب سكة الشعر والشعراء والخروج منها إلى روضة النثر، فهو خير لي وأبقى!
* وقد فهمت الرسالة نصاً ومضموناً، واعتبرتها (تأشيرة خروج) نهائي لي من فردوس الشعر بتهمة (التسلّل) إلى بلاطه العريق (دون تأهيل).. ومنذئذ، وأنا أستعيد ذكرى ذلك الموقف الطريف، وأرويه لبعض الأحبة من الجانبيْن.
* **
* قلت لنفسي معاتباً: مالك وللشعر يا فتىَ، فلن تبلغ منه شيئاً وإن حرصت، حتى وإن حفظت نصف (دواوين) سادة الشعر العربي عن ظهر قلب!.. فالشعر موهبة لمن حباه الله إياها، وليس مهارة يتعلمها المرء في صحيفة أو ديوان أو كتاب، وآية ذلك أن الشاعر العملاق غازي القصيبي، داعب الشعر وهو ابن التاسعة، حتى بلغ منه ما بلغ عبر السنين شهرة وإبداعاً وتفوقاً!
* * *
* أليس القائل في (معلقته) الشعرية الشهيرة (سيدتي السبعون) قبل وفاته - رحمه الله - بنحو ثلاث سنوات، وكأنه يُودع الحياة بابتسامة تقاسمها الألم والسخرية في آنٍ، فقال:
ماذا تريدُ من السبعينَ.. يا رجلُ؟!
لا أنتَ أنتَ.. ولا أيامك الأُولُ!
جاءتك حاسرةَ الأنيابِ.. كالحَةً
كأنّما هي وجهٌ سَلَّه الأجلُ!
* * *
* ثم يمضي مخاطباً (سيدتَه السبعين) بأنفاس صيغت من شجن السنين وآهاتها، فيقول:
أَوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً
إذا التقينا ولم يعصفْ بيَ الجَذَلُ!
قد كنتُ أحسبُ أنَّ الدربَ منقطعٌ
وأنَّني قبلَ لقيانا سأرتحلُ!
أوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً
بأيِّ شيءٍ من الأشياءِ نحتفل؟!
أبالشبابِ الذي شابتَ حدائقُهُ؟!
أم بالأماني التي باليأسِ تشتعلُ؟!
أم بالحياةِ التي ولَّتْ نضارتُها؟
أم بالعزيمةِ أصمّت قلبَها العِلَلُ؟
أم بالرفاقِ الأحباءِ الأُُلى ذهبوا
وخلَّفوني لعيشٍ أُُنسُه مَلَلُ؟
* * *
* بهذا النغم الحزين.. خاطب الشاعر الراحل (صديقتَه) السبعين مودعاً ومعتذراً أنه لن يستطيع أن يجاذبَها الجذلَ في وقت كان يترقب فيه لحظة الرحيل الأزلي!.. هكذا كان غازي مبدعاً وسط زخات الحزن وعواصف الألم في أيامه الأخيرة.
* أما كرسي جامعتي الأمريكية فـي لوس أنجلوس، فقد أجهضتْه (أفعى) الصهيونية من داخل الجامعة وخارجها بحجة أنه (ولدَ خارج رحم) الشرعية البيروقراطية داخل أروقة الجامعة التي تسيطر عليها (ميليشيا) النفوذ الصهيوني!