عبد الرحمن بن محمد السدحان
* ازدواجيةُ السلوك واحدةٌ من سوءات هذا العصر، وأبْلغُ مَثلٍ لها أن يَنْهىَ المرءُ عن فعلِ شيءٍ معيبٍ، ثم يِأْتي مثْلَه في السَّر أو العَلَن، ناسِياً أو متناسِياً أو مسْتَهزِئاً بما نَهى عنه أول مرة!
* وتَعنَي الازْدواجيةُ لغةً اقْترانَ شيءٍ بآخَر، أمّا اصْطلاَحاً، فلَلْكلمةِ أكثرُ من مْدلوُلٍ.. فهي عند الإداريُّ أداءٌ مَتزَامنٌ لمهمَّتيْن متَماثلتيْن هَدَفاً وإجْرَاء، من لدن جِهَتيْن مخْتلفتِيْن بُنْيةً وارتِبَاطاً، وهي عند الأخْلاقيَّ اقترانُ شيءٍ بضدَّه، وبمَدْلولٍ سلوكيّ أدقُّ، تَعْنِي الازدواجيةُ أن يَنْهَى المرءُ عن قَولِ أو فِعْلٍ، ثم يقترف مثله، كمن ينْهَي عن التَّدخين وهو داؤُه، أو كَمَنْ يُوصِي الناس باللَّين والرَّحمْةِ وهو شديدُ الخِصَام!
* والازدواجيةُ من منظُور آخَر، ظَاهرةٌ اجتماعيةٌ لا تختصُّ بها مجْمُوعةٌ من البَشَر دون أخْرى، بل لا يَكادُ يخْلُو منها مجْتَمعٌ في الأرضِ، لكن يجوزُ القولُ بأنَّها أكثَرُ حُضُوراً في المجْتَمعاتِ التي نالتْ نصيباً من التغيّر الحضاري والثَّقافي، وخصوصاً ما اتّصَلَ بأنماطِ السلوكِ كيْفاً ووسيلةً ومضْمُوناً.
* ما يعنيني في هذا السَّياق هو المدْلوُل الأَخْلاقيَّ للظَّاهرة، حين تُصِبحُ (مظلةً) للتضَّاربُ السُّلوَكي بين الأقْوالِ والأفعْالِ، إذْ غَالِباً ما تُتَّخذُ سَبيلاً لتَبريرِ بعضِ أنماطِ الانْحرافِ، على مسْتَوى الأفْرادِ والمجْتَمعَات، بل والدول أيضاً، فالكيانُ الصُّهيوني مثلاً، يُمارسُ ازدواجية فاضحةً في تعامُلِه مع الشَّعب الفلسطيني، حين يُسمَّى الدفاعَ عن الكرامةِ شغباً وإرهَاباً، فـي حين يَخْلعُ رداءَ (الشَّرعيةِ) على ممَارستِه هو ضدّ الأبرياء: قَتْلاً وهَدْماً وتشريداً!
* وفي هذا المجتمع، بتْنَا نُعاني ظاهرةَ ازدواجية السّلُوك، نتيجةَ تأثُّرنا ببعضِ إفرازاتِ الطفرةِ المدنيةِ والاقتصاديةِ، نَشَأ في ظلّها شيءٌ من التَّضاربِ في القِيمِ: أصيلِها وجَديدِها، موْرُوثهِا ومُسْتَوردِها، فهناك من قد يأمرُ أبناءَه بالصَّلاةِ وهو لا يُصَلي إلاّ لمَاماً، وينْهَى عن الغَلُوّ في الوَلائِم، وهو أشدُّ النَّاسِ فيها بَذْلاً، ويَحُضُّ رفاقَه على ارتيادِ مرافقِ السَّياحةِ الداخليةِ في المملكة، تجنُّباً للشُّبهَاتِ، في الوقت الذي يُصِرُّ على (الهجرة) مرةً أو مرات كلّ عام خارج الحدود باسم التجارة أو السياحة، أو كليْهما!
* تلك كانت صوراً منتقاةً للازدواجية السلوكية، وحين أوردُها هنا، لا أزعم أننّي أملك الحلَّ لدرءْ سلبيّاتها، لأن ازدواجيةَ المجتمع والأفرادِ ضِمْناً، من الأمُورِ التي تُجسَّدُ قدْراً كبيراً من التّعقيد الأخلاقيّ والثقافـي أفرزته، جُزْءاً، الزخّاتُ الحضَاريّةُ التي تَعَرَّضْنا لها اسْتصْحَاباً لانْفِتَاحنِا على العَالمَ الخَارجيّ، لكنّنِي أعتَقدُ جَازِماً أنّ هذه مُهمّةُ فُقهَاءِ الدَّين وعُلمَاءِ التَّربيةِ والاجتَماعِ في مؤَسَّساتنِا الدينيةِ والعلميةِ ليتَنَاولوُها بحْثاً وتحْليلاً واسْتِنْتاجاً، وما ذلك على المؤمنين الصادقين بعسير!