عبد الرحمن بن محمد السدحان
* يترى على سمعي مرةً بعد أخرى هذا السؤال: كيف كان تأثير تجربة الطفولة والصبا على (أجندا) حياتي في رحلة العمر الطويل، وما هي أبرز ملامح هذه الرحلة؟.
* * *
* بدءاً، لا بد لي من القول إنه لمن العسر العسير أن أستعرض ملامح تلك التجربة في إجابة مقتضبة عبر هذا الحديث أو سواه، وكل ما أستطيع ذكرَه هنا هو أنني نهجْت في طرحي إلى تناول مشوار حياتي كتابةً عبْر فصليْن من الجزء الأول من سيرتي الذاتية، وهما ما قبل الرحيل إلى أمريكا للدراسة الجامعية.. وما بعده، وكل منهما استنفد رصيداً من سنين عمري، جهداً وجهاداً ونصباً!
* * *
* كنت قبل الرحيل إلى أمريكا ذا شخصية يشوبُها شيءٌ من غموض الهدف، وضبابية الرؤية، وتقاطع الغايات، وبخاصة خلال فترة وجودي في الرياض بعد انتقالي إليها للمرة الأولى عام 1376هـ، لأبدأ هناك دراسة المرحلة المتوسطة.
* * *
* وحدُه عشقي للقراءة والكتابة كان يلازمني ملازمة الظل، وكان عشقاً (من أول سطر) اكتشفت من خلاله بعضاً من ملامح نفسي المشحونة بجراح الماضي ومعاناته، أدمنتُ القراءةَ والكتابةَ إدماناً خشيَ معه والدي أن يعُوقَ نموّي الدراسي، مع أنه - قدّس الله روحَه - هو الذي (أهداني) (فيروس) القراءة بكل أشكالها ومصادرها، ورحت أرمّم أشلاءَ نفسي محَاولاً إعادةَ بنائها، وأنا على مقاعدِ الدراسة وفي حلقَات اللهو البريء مع الزملاء!
* * *
* ثم (اقترن) خيالي في سن مبكرة مع بدء المرحلة الثانوية بسحر الكلمة المكتوبة عبر بعض الصحف وخلال فترة قصيرة من الزمن، وقبل ذلك كنت أوُدِعُ (هواجسي) كراسةَ الإنشاء.. (وأثرثر بين سطورها) بعبارات وتركيبات صياغية ألهمتني إياها قراءاتي لطه حسين والمنفلوطي والزيات وغيرهم - رحمهم الله - وأحياناً، يبلغُ إعجاب مدرس الإنشاء بما أكتبُ حداً يجعله يطلب مني قراءةَ بعضِ موضُوعاتي أمام زملاء الفصل، فيتلعثَمُ لساني خجلاً، لكن الفرحة كانت تغرّد في كل شبر من كياني!
* * *
* أما الرحلة الدراسية إلى أمريكا فقد كانت مرحلة مفصلية أخرى في حياتي، حين انطلق بي (مكوك) التجربة الجديدة والمثيرة في فضاء من الحرية والثقة والاعتماد على النفس - بعد الله -، فاقتربت من نفسي أكثر.. (تصالحاً معها) لأكتشف ما كنت أجهله عنها، وهيأ لي تفوقي في الدراسة الجامعية وفي الحياة الاجتماعية بوجه عام فرصة (المصالحة) مع الماضي، من جهة، و (التعاهد) مع الحاضر والمستقبل من جهة أخرى، بأن أبذل كل جهد ممكن تأهلاًَ للثقة التي وُهبت إياها.. من لدن أهلي وقبل ذلك وبعده، من لدن وطني الحبيب الذي فتح لي عبر الابتعاث نوافذَ الأملِ والطمُوح، كي أُعانق الحاضر والمستقبل معاً بشغفٍ كاد ينسيني بداياتي!
* * *
* ورغم ذلك كله، أظلُّ مديناً - بعد الله - لمرحلة العسر في طفولتي، لأنها (فجَّرت) في وجداني جَداولَ من الشفافية مكّنَتْني من الإصغاء إلى طموحات نفسي وترجمتها إلى سلوكياتٍ أسهمت في إقامة جسور عبور نحو الآخرين معرفةً ومحبةً وفهماً، وهذه في تقديري أهم فضائل (التعلّم) لبناء الكيان الذاتي للمرء، كي يَتَجاوزَ أسوار نفسه بسلام إلى العالم من حوله، وبدون ذلك، يظل ذلك المرءُ مِنّا (جزيرةً) وحدَه، بلا جسوُر.. بلا شواطئ.. ولا وجود!
* * *
وبعد:
* ما أود ذكره في ختام هذه النجوى الذاتية.. هو أنه لو لم تكن رحلة عبوري من الماضي الذي كان.. إلى الغد الذي بات حاضراً، شاقةً وعسيرة.. ومثخنة بالأرق والعرق في دقيقها وجليلها، فلربما كان صاحب هذه السطور الآن نسياً منسياً!
والحمد الله.. من قبل، ومن بعد!