رقية الهويريني
من يخاطر ويعبّر عن أفكاره بتلقائية، ويفصح عن مشاعره بشفافية؛ ويعرب عن أفكاره بمصداقية فحتما سيعيش غريباً! وأقصد غربة الروح لا غربة الجسد وأشد منهما غربة الفكر!
ومن يوحى لك بأنه ليس من الكياسة أن تميط اللثام عن كل فكرة تقدح في عقلك؛ فإنه لم يصدِقْكَ؛ لأنه من القسوة والظلم لنفسك أن تكبت فكراً شاء ربك أن يطلق عنانه من عقال الجهل، ويحلق في سماء المعرفة.
وإن كنت ترنو لكسر الأغلال لتعيش بفكر تنويري يجل الاختلاف ويوقر التعددية فسيواجهك مجتمع يحمل عليك ويحاصرك ويحيطك بسياج أحادية الفكر ليحيلك نسخة مكررة من أفراده؛ تفكر بنفس الرؤى وتتحدث بذات الأسلوب، وتردد العبارات عينها!
وحين يمارس المجتمع قسوته عبر مطرقة القطيع بحجة الاحتماء بالجماعة وعدم الشذوذ عن القاعدة أو الخروج عن النص الذي يردده أفراده ببغائية؛ فإنه لا يدرك قط أبعاد بهجة الاختلاف وجماله! وكأن الاختلاف يعني شق عصا الطاعة والخروج عن حظيرة المجتمع! وحتى الكلمات التي يستخدمها تأتي عنيفة كيلا يكون لديك فرصة التخلص من الأغلال أو الفكاك من القيود!
وبرغم قسوة غربة الروح إلا أنها أفضل من تلويث النفس بالتلون وسط عالم يموج برغبات مادية غاية بالقبح، ومنتهى البشاعة!
ولئن كنت تمارس نفس الطقوس الحياتية من أكل وشرب وملبس وشكليات فإنك تدرك - بما وهبك الله من فكر - أنك تعيش حتما وسط مجتمع غارق بالمتطلبات الجسدية!
وإن تزاول نمط تفكير مختلف شكلاً ومضموناً؛ فأنت بلا شك قد اخترت أن تكون وحيداً وسط ضجيج مجتمع يرفض أن تعيش مسروراً بأسلوب مغاير لما اعتاد أغلب أفراده عليه! فتتكالب عليك حينئذ الوحدة التي اخترتها طوعاً، والحيرة التي فُرضت عليك قسراً. وتبقى تراوح بين جدلية حتمية الجماعة واختيارية الفرد حتى تخور قواك وينصهر فكرك ويذوب، وتجد نفسك تمارس طقوس الجماعة ببلاهة، تسميها تارة بالمسايرة، وتارات تقنع نفسك بضرورة الانضواء تحت لوائها أياً كان توجهها حتى لا يؤذيك سماع عبارات جوفاء تجرك إكراها نحوهم، وكيلا تدخل ضمن زمرة المرضى، أو هكذا يصنفونك!
وتظل عبارة (الموت مع الجماعة رحمة) أقسى وأغبى عبارة فرضها المجتمع على الفرد، لتصبح هي الأغلال، وليبقى المرء يعاني من غربة الروح!