كوثر الأربش
نحنُ غالباً لا نرانا!
وحين نفتش عن ذواتنا في الصور الذهنية التي تنعكس بمرايانا الجوانية لا نجدنا، إنما نجد «آخر» يسكننا. آخر قد كُنّاه في زمن مضى. أشد ذكاء، جمالاً، شباباً ونجاحاً وربما ثراءً. تتوقف الساعة عنده، فيدور كفاح الحياة حول العودة لذلك النموذج الأكثر مثالية في نظرنا. أو لمن لم يحقق نجاحاً مبكراً، أو لم يصل للصيغة المرضية عن ذاته، يصبح الآخر هو الوجود الذي نحلم به، ونسعى لأن نكونه. وما بين الآخرَيْن نفقد الصورة الآنية التي نحن عليها في المرحلة والزمن الحاضر. نحنُ كما نحنُ، بكل ما في هذا الوجود من تغيرات وخبرات وتجارب وهموم وخسارات وتطلعات. لكن هذا لا يحدث عادة. لأننا حين نغمض أعيننا ونحلم أو نخطط أو نتذكر لا نحضر في أحلامنا كما نحن، بوجودنا الآني، بل يحضر الآخر الذي نغرفه من الماضي أو نستجديه من المستقبل.
غير أن الحياة ليست لأولئك الآخرين من الماضي أو المستقبل. كل زمن له معاييره ومتطلباته وشروطه. ولن يكون النجاح صديقاً لأي وجود وهمي، لأن هؤلاء سينجحون أو نجحوا في أزمانهم. محاولة اخضاع الزمن لذوق وسمة زمن آخر محاولة تعيسة ومضنية.
في فيلم الأوسكار الأخير لعام 2015 «بيردمان» توضيح ممتاز لما أعنيه هنا. كان «بيردمان» الذي يؤدي دوره مايكل كيتون ممثلاً حصد شهرة جيدة في بواكيره عن دور الرجل الطائر، ثم أخذ نجمه بالأفول مع تقدم الزمن. لكن «الآخر» المتمثل في دوره الذي عرفه الجمهور فيه، كان يطارده، يسير خلفه، يحدثه. بحيث يظهر في الفيلم بجسد أكثر فتوة، وبصوت أجش، وبقدرات خارقة. فيما كان يقاسي كيتون صراعًا عارمًا للعودة للبريق والشهرة، كان الآخر يلح في ظهوره، يحاول إقناعه أنه لن ينجح إلا بدونه. ولن ينال الأضواء دون قناع «بيردمان». وفي ختام الفلم ينجح أخيراً الممثل في الصعود من جديد للنجومية لكن ليس من خلال «بيردمان» بل من خلال مسرحية مثل فيها دوراً يشبهه إلى حد كبير!
لقد أنفق سنيناً بلا طائل، لمحاولة انعاش «بيردمان» لكنه حين نجح، لم يفعلها إلا بكينونته الآنية وحضوره الزمني والواقعي.
لعلنا نجد هذه القصة تتكرر في عالم صناعة الأفلام. في محاولة ممثل لأن يعود للأضواء من خلال تكرار أدوار شبابه، أو تكرار دور برع فيه، حتى يغرق في هذا القالب وينسى بقية اجزائه وقدراته التي تطورت أو تغيرت بفعل الزمن.
نتذكر كلنا كيف فشلت محاولات انعاش «رامبو» مثلاً. الذي شغل العالم والقارات. لكنه اليوم لم يصبح نجما بعضلاته وصوته الأجش وكلامه القليل. تغيرت معايير البطولة كثيراً. لكننا ننسى أن ذلك ينطبق علينا نحن أيضاً حين نستجدي الماضي أو نغرق في تأملات المستقبل لاستحضار آخر يحل محلنا. نتخفى تحت اقنعتنا، ومظاهرنا وأكاذيبنا، نريد أن نعبث في الزمن، أن نخاتله، لكنه في كل مرة يفضحنا! ويريد القدر أن ينجح دائماً أولئك المحتفون بزمانهم، المبصرون مزاياهم، الذين تمكنوا من تقييم أنفسهم دونما الحاجز لخداع الذات. الذين أدركوا حقيقة أننا حين نحرق الخشب لا يعود كما كان لكن يمكننا أن نصنع به منحوتة رائعة بشكله النهائي.