د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في الأسبوع الماضي امتطت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة)، مركباً آخر من مراكبها نحو الإتمام وذلك في المؤتمر الدولي تحت عنوان (مكافحة الفساد مسئولية الجميع) وقد وردتني دعوتهم تخطل في سمو أهدافها.
وأقول في هذا المقام (ليت الفساد نباتٌ فأقلعهُ) مع الاعتذار للبوح الجميل (ليت حظي نباتٌ فأزرعه).
وقد طُرحت خلال ذلك المؤتمر رؤى، وبُثت شجون المخلصين تجاه ما يدعو للوصول إلى نزاهة المكان والزمان قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}. سورة البقرة 251.
انقلبت بلادنا ولله الحمد من أمومة الصحارى، وحطت حيث كل مغامرة جميلة، وخطوة وثّابة نحو الأمكنة، وأقرّت نظاماً أساسياً للحكم بلغ مداه؛ في إحاطة النزاهة بكل قوانين الحماية والحضور في كل مؤسساتها.
وانطلقت من حكامنا شذرات القول التي تلتقطها الآذان, فتملأ الكون بطاقةٍ نابضة من الحرص على أن تكون منابع التنمية نقية، ومصباتها وفيرة صافية، فاستُصدرت القوانين واستُحدِثت قطاعات عامة للرقابة ومراجعة الأداء, وانتشرت فروعها في كل أصقاع البلاد وحُشِدت لها الموارد البشرية، وكثُر من يتعلقون بالأمر في كل تلك الدوائر، ورغم ذلك فقد كثُر اللغط حول من يفسدون في الأرض بعد إصلاحها، وأصبحت الروايات عن الفساد في شتى المواقع تصيخ لها الآذان, وكأن الناس يسمعون قصص قطّاع الطرق وصعاليك الجاهلية الذين كانوا لا يعترفون بسلطة القبيلة فأطلقوا حركتهم وزعيمهم عروة بن الورد القائل:
أتهزأ مني أن سمِنتَ وأن ترى
بجسمي شحوب الحق والحق جاهدُ
أفرِّق جسمي في جسومٍ كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء باردُ
والحالُ مختلف طبعاً فالعقيدة الاسلامية تنهى عن الفساد بصوره وأشكاله قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} سورة البقرة 205.
والقوانين الحاضرة اخترقها حضور المكان والمكانة، والفجوات الرغوية في الهياكل التنظيمية، وهشاشة أنظمة المحاسبة، وضعف السلطة التنفيذية، وازدواجية المهام في الجهات الرقابية، ثم وراثة المفاهيم الخاطئة في المنظمات عن حدود الفساد وصوره، وتحول تلك الصور إلى مقاطع أفلام للمباهاة باختراق النظام في ظل وجود القائمين عليه، إضافةً إلى تصنيف صور الفساد إلى أعراف متعارف عليها قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (23) سورة الزخرف.
نعم هناك رؤى حول صور الفساد منزوعة الدسم لا يفقه كُنهها إلا الراسخون في النزاهة.
ولعلنا ما زلنا في التذكير والتوعية، ولكننا ننتظر تحقيق النزاهة والاحتفال الأسمى بخلو وطننا من ذلك الوباء الذي يفتك بالتنمية والنهضة والحضارة، ويزرع الاتكالية، ويقتل الطموحات والمبادرات الحية، ويغيّب النموذج القدوة وتصطف العلامات المقلّدة تملأ الفضاء وتقود نجومه فيكثر العالقون بين الموت المجاني أو النزوح باهظ الثمن.
أصبحت الأصوات تهدر بجسارة ضد الفساد والمفسدين في أوكارهم المختلفة وكأنها تحاور شيخاً يطل من بين تجاعيده ليخوض مغامرة مع شبابٍ صغار عاشوا في زمنٍ تلوّثت فيه بعض رقاعهم بزخارف سوداء ولكنهم ألفوها حيث كانت.
وهذا الشيخ المُتخيّل الذي جلس كالأسد الهرِم لم يفقد خلطة الذكاء السرية, وكان يستدعيها ليضمن استجابة كبيرة من اولئك ليفتح لهم (ألبوم صور الفساد) فيقول:
التقصير في معالجة السلبيات فساد، وبطء الخطوات الإصلاحية فساد، والتهافت على الإعلام دون وجود محصِّلة أو فائدة فساد، وإصدار التنظيمات والتعاميم دون دراسة مستفيضة لما وراء النظام ومستوى تحقيقه لفائدة المستهدفين فساد حيث تؤدي عدم الدقة في التنظيم ووجود ثغرات فيه إلى هدر جهود وأموال وأزمنة دون نتائج، وانعدام أوضعف نواتج الخدمات بأنواعها قرُبت أو بعدت فساد، والتدريب والتأهيل في غير أهلِه تخصصاً ومكاناً فساد، وتغييب المعلومات الصحيحة عن صاحب القرار فساد، لأن بناء البرامج والخطط على حُزم المعلومات الصحيحة هو السبيل للوصول إلى تحقيق الأهداف، والتعامل مع الوقائع حين وقوعها فقط فساد لأن البحث من جديد في أبجدية الواقعة يؤدي إلى إشراع بوابة المنتفعين ليصطادوا، وعدم تحديد المسئوليات والصلاحيات للمؤسسة فسادٌ أيضاً، وبالتالي ينتج عنه عدم قدرة من حُمِّلوا ذلك على صناعة القرار وتوجيه العمل في المؤسسة لأن تضارب المهام مع الصلاحيات يوهنُ عزم المرؤوسين ويُعيق انسياب المهام بين السلطات داخل المؤسسة وربما يستفيد أحد الطرفين من العناقيد المتدلية فيقطفها دون رقيب, ومن ثم تفقد الشريحة التنفيذية مقومات النجاح وتُطمر الابداعات وينتشر الفساد.
ويروي الشيخ أيضاً أن من الفساد حمل ركام الرماد من بعض الحرائق المنطفئة في إحدى دوائر المؤسسة إلى دوائر أخرى في المؤسسة ذاتها هي منهم براء ليكون هناك اصطفاف آخر دون حياة.
ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزة
لمكنتها من كل نذل تُحاربه
ونؤكد أن قوة النظام وإحكامه، وتماسك القواعد, وحماية المنابع من قُطّاع الطرق، وتمهيد السبل إلى المصبات دون شوائب المنتفعين؛ هو الانطلاق الصحيح نحو المجتمع النقي من الفساد والانتقال إلى الخطوات اللامعة لمستقبل بلادنا الوارفة المغدقة.
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (81) سورة يونس.