أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد سجَّلتُ كليمةً عن آثار الاستعمار، وحِيَلِ الصَّدِّ عن دين الله، ولا أدري عن أي كتاب نقلته؟.. والظاهر أن القائل (زويمر) يتلمَّظ بنتائج الجَلَدِ الصليبي؛ فيقول: «إن السياسة الاستعمارية لما قبضتْ من نصفِ قرنٍ على برنامج التعليم في المدارس الابتدائية:
أخرجت منها القرآن، ثم تاريخ الإسلام؛ وبذلك أخرجتْ ناشئةً لا هي مسلمةٌ، ولا هي مسيحية، ولا يهودية!!.. ناشئةٌ مضطربة مادية الأغراض، لا تؤمن بعقيدة، ولا تعرف حقاً؛ فلا للدين كرامة، ولا للوطن حُرْمة!!».. وجَلَدُ الكافر لاقَى أرضيةً هشة؛ فَقَبْلَ جَلَدِهِ هو: كُنّْا نحن ضعفاء بسبب تربيةِ السقوطِ الحضاري، والركودِ الفكري، والتخلفِ العلمي.. كان الأزهر قبل ضعفنا يُدَرِّس طُلاَّبه في حلقاتِه الفلكَ والجبر والهندسة والطب، كما يدرِّس علوم الدين والعلوم المساعدة؛ ثم غلبت (في حقبة الانحطاط الأدبي، والركود العلمي، ووأدِ النبوغ) مَقُولَةُ: (العلمُ قال الله قال رسوله!!)؛ ففهموا أنَّ ما تُعْمر به الدنيا، ويُرهَب به عدوُّ اللهِ من الحرفة والمهارة: ليس مما قال الله وقال رسوله.. والمقولةُ لبعض علماء الحديث الأجلاء فهموها على غير وجهها يوم كان الاستشهاد بالنظم لا بالشعر!!؛ لذلك حُصِرَتْ حلقات الأزهر، وحُصِرَ اهتمامُ العلماء في مصادر الشرع (القرآن، والسنة)، وفي أصول الاستنباط -علوم القرآن والحديث وأصول الفقه-، وفي الأحكام المستنبطة، (وهي الفقه وما تفرع عنه من حقول كالفرائض والسير والأحكام السلطانية، والوثائق والشروط وأحكام القضاء ونظامه).. وفي الجانب التصوُّري أو العقيدي وهو التوحيد، وفي العلوم المساعدة وهي النحو والبلاغة، وفي تاريخ تلك العلوم ورجالها.. ولقد ذكر منير عطاء الله وزملاؤه في كتابهم (تاريخ ونظام التعليم في مصر): أن انعزالَ الأزهرِ عن علوم الدنيا أمْرٌ رحَّب به مؤسسو التعليم المدني؛ فاستصدروا من الخديوي إسماعيل باشا عام 1872م قانوناً خاصاً بتنظيم الأزهر وإصلاحه، وقد حدَّد القانون الموادَّ التي تُدَرَّس في الأزهر بإحدى عشرة مادة هي: الفقه، وأصول الدين، والتوحيد، والحديث، والتفسير، والنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع، والمنطق.
قال أبو عبدالرحمن: والواقع أنهنَّ ثماني مواد وحَسْبُ، وقد رحَّب الأزهريون بذلك.. وههنا التقى عجزُ الأتقياءِ بجَلَدِ الفُجَّار؛ فصارت الثنائية بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة من ناحية الأحقيَّة، أو الأولوية.. وكان محمد علي أوَّلَ من فصل التعليم المدني؛ لتخوِّفه من معارضة الأزهريين إذا ما أراد إعادة العلوم الدنيوية إلى الأزهر.. ويذكر الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله تعالى- في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر): أنَّ (كرومر) كان يُؤَكِّد للمصريين أن المسلم غير المتفرنج لا يصلح لحكم مصر، وأن المستقبل الوزاري سيكون للمصريين المتفرنجين.
قال أبو عبدالرحمن: ودلالة الحال تُغْنى عن هذا التأكيد؛ ذلك أنَّ علماء الشريعة انعزلوا عن علوم الدنيا، وعُزلوا عن المناصب القيادية.. وحُظي التعليم المدني ببحبوحةٍ وإعلاءٍ صيتٍ في واقع المدرسة والدراسة، وفي واقع المدرِّس، وفي واقع الطالب بعد تخرجه وطلبه لوظيفةَ.. وَيُصَوِّر هذا الواقعَ المدعومَ بجَلَدِ الفاجرِ الواقعُ المعاكسُ للتعليم المدني، وبِضدِّها تتبين الأشياء؛ وهذا الواقع المنكود ذو جانبين: جانبِ التعليم الديني حال ضعفنا قبل تدخُّل الأجنبي في شؤوننا، وجانبِ تعليمِ الدينِ واللغة العربية في مدارس التعليم المدني وَفْقَ ما اختاره لنا عدونا الفاجر الجلد؛ فالجانب الأول يتميز بالتالي:
1 - الدراسة على الألواح.
2 - المعلِّمُ معه عصا طويلة في وسط الصف من الحلقة.
3 - يقوم تدريسه على التلقين، ويُفْرغ في الطالب كما يفرغ في القِرْبة المعلَّقة.
4 - تفترش الحُصُرُ البالية.
5 - إجازاتُ الشيوخ لطلابهم بعد التخرُّجِ لا تخلو من التزييف بإطلاق ألقاب علمية فخمة.
6 - تضخيمُ التراكم الثقافي في مؤلفات المدرِّسين بما يُلخصونه من المتون، ودعْك من الحواشي والهوامش.
قال أبو عبدالرحمن: درستُ في مرحلةٍ عاليةٍ ما كتاباً في أصول الفقه لدكتور أزهري من بقايا ذلك الجيل، وكلُّه تلخيصٌ كسيحٌ من أحكام الآمدي!!
7 - تمويل وتموين المدارس من الصدقات والهبات والهدايا، وهي غير منظمة فلا تكاد تحقق الحاجة في وقتها.. وهذه المميزات للتعليم الديني ترتبط بذهن طالب التعليم المدني؛ لأنها من مخزون الذاكرة.. بيد أن التعليم المدني لمَّا أَدخل موادَّ ثانوية من علوم الدين واللغة: ربَط مشاهدةَ طالب التعليم المدني بقريب مما كان في ذاكرته، وذلك هو الجانب الثاني، وإلى لقاء عاجلٍ -إن شاء الله- مع صُوَرِ هذا الجانب، والله المستعان.