أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: تكلَّمتُ في الأسبوع الماضي عن التعليم المدني، والآن أتكلم عن صُوَر الجانب الثاني، وهي:
1- أن المادة ثانوية.
2 - تكون آخر الحصص بعد ملل الطلاب.
3 - يكون المدرِّسُ طاعنَ السن عليلاً بفحيحه وسعاله.
4 - يكون راتب مدرِّس اللغة العربية ثُلُثَ راتب مدرِّس اللغة الإنجليزية.. وقل مثل هذا عن خِرَّيج المَدْرَستين حينما يطلب الوظيفة أو تطلبه؛ فكان ما كان مما لست أذكره؛ فتعلَّم القوم وتفرنجوا فكراً وسلوكاً، وهذا منتهى الطرفين.. وغلبت الأُميَّةُ في أمور الدين والتعبدُّ، ثم أذن الله بشباب في بلادنا كسروا الُحُجَزَ بين التعليم الديني والمدني، ومَنْ كان منهم تعليمُه مدنياً أخذ العلم الشرعي تحْت رُكب المشايخ في الحِلَق، وبسماع الأشرطة، وبحفظ المتون الأصول؛ فصارت علوم الشريعة ثقافةَ ذي العلم المدني، وربما كانت تخصصه الثاني؛ وإنما يُخَاف ذَوَبانُ بعضِ الشباب أو جُمُودُهم إن ظل على ما نراه في بعضهم من تقوقِعٍ وبُعْدٍ عن قضايا الفكر، وتغليبِ مَلَكَةِ الذاكرةِ على مَلَكةِ التأمُّل.. والمدرِّسُ في هذا المنعطف بين اندحار جِيلِ السقوط وقيامِ جيلِ الصحوة: لا بد أن يكون جَبْهةً طُلْعة.. لا بد أن يكون كادَراً بما يعنيه التجوُّزُ بهذه الكلمة من معنى إطارٍ ومَلاك.. والتعليمُ أهمُّ الجبهات الأربع (التعليمِ، والإعلام، والثقافةِ الحُرةِ، والقانون)؛ وذلك في توجِيهِ الأمة والأخذ بحُجزها؛ لأن التعليم ألصق الجهاتِ الأربع بالشباب الذين يمثلون تاريخ المستقبل.
قال أبوعبدالرحمن: على أن هذه الأمجاد مُنِيَتْ بِمُتسلّْلِين حركيين أحسنتْ بهم الدولةُ الظن؛ فجاروا على تحرِّينا مذهبَ السلفِ بأوشابٍ مُضَرَّةٍ مِيزتنا وتفرُّدِنا، وطرأ على مجتمعنا مظاهرُ من العنفِ والتفسيق والتكفير تأباها ثمراتُ استقلالٍ سلفيٍّ برغده وأمنه، وتراجع كثير من الشباب عمَّا هم عليه من حماس للجمعِ بين عِلمَي الدنيا والآخرة، وَوُفِّقت الدولةُ باحتواء الموقفِ بتوجيه أبويٍّ سليم متسامح.. وإنَّ ظروفَ التحدياتِ الراهنَةِ قمينةٌ بتحقيق حِذْق المدرِّس واجبَه واكتمالِ أهْلِيّتِه.. واتجاهُ الناشئةِ عِلمٌ، ولا بُدَّ مع هذا مِن عِلْمٍ عصري مؤسَّسِ على ثوابتَ دينيةٍ فكرية.. ومِن الإفلاس العلمي والفكري العزوفُ عن التراث من جهة الامتداد معه: إما لمقولةِ: (ما ترك الأول للآخر شيئاً)، وإما لمقولة: (الحداثةُ على عَرْضِ المعمورة وطولِها: ما تركتْ للتراث قيمة) !!؛ فأما المقولةُ الأولى فلا أعبأُ بها؛ لأن منهجي الأخذُ بالميزة وتركُ المجمل في التراث والحداثة معاً؛ ولأن إيماني العلمي قائم على العقيدة بالوجود الحتمي للثوابت في الكون والفكر والعلم.. وأمَّا المقولةُ الأخيرُ فقد قال عنها (الإمام بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي): (واْعلمْ أن بعض الناس يفتخر، ويقول: (كتبتُ هذا وما طالعت شيئاً من الكتب !!).. ويظنُّ أنه فخر، ولا يعلم أنَّ ذلك غاية النقص؛ فإنه لا يعلم مزيةَ ما قاله على ما قيل، ولا مزيةَ ما قيل على ما قاله؛ فبماذا يفتخر ؟!)) [البرهان في علوم القرآن 1/6 ].
قال أبوعبدالرحمن: ولقد حسم الأمر الإمام أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى بقوله: «التآليف السبعة التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها: إما شيء يخترعه لم يسبق إليه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه صاحبُه يُصْلحه».. وفي كلمة أبي محمد هذه ردٌّ على دعوى مَن يقول: (ما ترك الأول للآخر شيئاً)، وقد حفظتُ عن شيخ الأدباء (الجاحظ) قولَه: «إذا رأيت الذي يقول: (ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم أنه لا يريد أن يفلح».. وإنَّ مَنْ مارس البحث يدرك هذه الحقيقة إذا أراد كلمةَ فصلٍ في أي مسألة جزئية من شتَّى أنواع المعارف؛ مما يدل على أن الأوائل قالوا كثيراً وفاتهم أكثر، وأنَّ العلم ليس وقفاً على سابقٍ عن لاحق، وأن إمداداتِ العلم لا تجفُّ إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها.
قال أبو عبدالرحمن: وأما الجمهور الأكثر من ذوي التَّرف الثقافي والجمالي فلا عليهم إذا اختلسوا أُوَيْقَاتٍ للتفقهِ في كلام الله سبحانه وتعالى؛ فإنْ لم يجدوا أنَّ آياتِ الله تتفاعلُ مع عقولهم وقلوبهم؛ فتمنحهم سكينةً وفرحاً ونشاطاً ونوراً في الوجه، وتَهبُهم براعةً في ميولهم النظرية: فليحاسبوني عند أعدلِ العقلاء، وأنا مُتَحَمِّل أشدَّ العقاب إن كنتُ غاشّاً لهم.. وكل ما مضى كان حديثاً معهم، وأُوْجِز لهم الآن: أنَّ مَن صِفَتُه التثقُّف غير التخصُّصي: فَعَليْهِ أنْ يثق بأنه إنْ رام تحقيقَ مسألةٍ مِن مسائِله بتفَرُّغٍ ومراجَعةٍ: ظَفُر بجَرِّ ذيولِها كما يظفر بذلك أهل التخصص، وتكون نظرتُه وتقويمه للكاتبين في ذلك الحقل نافذةً مدرِكةً مُمَيّزة؛ فمثَلُهُ في ذلك الحقل الذي لم يَتَخَصّصْ فيه وإنما تثقَّف فيه كمثل السابح غير الماهر يُشْرِف على السابحين في ماء غزير؛ فيصيبُ حكمه المِحَكَّ في تقويم السابحين، وتقدير درجات سَبْحهم.. وأهدافُ المثقف الحاجزة عن التمَّزُق: أنْ يرسم منهجاً للتأصيل والتقعيد؛ فَيُلَبِّي حاجةً ضرورية، ويقدِّم ابتكاراً يُعْتَدُّ به كما في فلسفة الاشتقاق لمعاني المفردة اللغوية.. والابتكارُ أنفس رتبِ التأليفات السبعة التي ذكرها الإمام أبو محمد ابن حزم.. ومِنها أنْ يحلَّ تعقيداً، ويجلو غُمُوضاً، ويذلِّل صعباً؛ ليكون إتقانه هذا هو المتعةَ الكبرى لثقافة السواد الأعظم.. وهذا وحده مطلب نفيس.. ومِثْلُ هذا أيضاً مَنْ يحْكُمُ بأنَّ هذا الزّيّ مَنَ الحِذاءِ أَجْمَلُ ما تَراه العينُ ولو كَلَّفْتَهُ صناعةَ مِثْلِهِ ما قَدُرَ على ذلك؛ ذلك أنَّ الجمالَ الفنيَّ يُدْرَكُ، ولكنه لا يصْنَعُ كما في الجمالِ الطبيعيِّ مِنْ كَوْنِ اللهِ الذي يُحاكيه الجمالُ الفنِّي وَيُضاهِيْهْ؛ فأنت تدركُ جمالَ صوتٍ مُطْرِبٍ لا تفهمُ معانيَ الصوتِ نفسِه كصوتِ المُطْرِبَةِ الفارسيةِ صاحبةِ بشَّارٍ.. وما زاد عن هذا المطلب من تحقيقٍ وتدقيق فهو مطلبٌ آخرُ يُضفي على العمل نَفْسِهِ صفةَ الاستيعاب العلمي، واليقظةِ الفكريةِ.. ومِن أهداف المثَقَّف حِذْقُ سياسة الأداء؛ فلا ريب أن اللغة العلمية المباشرة التقريرية الإحصائية ثقيلة مملة عند إرادة التألُّق الجمالي.. واللغة الإيحائية الجمالية سفسطة وتنطُّع وتزويق عند إرادة الفهم المباشر، والإحصاء والرصد؛ فحينما يكون الموضوع فلسفياً أو فكرياً يُلِمُّ بأصداءَ من الفلفة، أو عِلْمياً فَيُلُّمَ بأصداءَ من العلوم النظرية التي يحذقها لغةً وتاريخاً وفقهاً.. إلخ؛ فلا بُدَّ إذنْ مِن لغة تقريرية مباشرة أمينةٍ على الاصطلاح تحرص على تفهيم المتلقِّي تفهيماً يتعلَّق بالتصور والحكم معاً.. وأداة ذلك لغةٌ مأثورة مفردةً وصيغة ورابطة وتركيبةً نحوية وسياقاً ودلالة بلاغية وفكرية.. وشروط هذه الأداة لا تلغي العنصر الجمالي من ناحية التركيب البلاغي تركيباً لا يُجَنَحُ فيه إلى الإيحاء على حساب المباشرة في مسألة علمية تقتضي ذلك، ومن ناحية اختيار المفردة بشروط الفصاحة.. على أنه لا بد من استحياء المهجور من اللغة بتطعيمٍ قليل بشرط البُعْدِ عن الحشو والتقعُّر؛ حتى تستعيد الصحافةُ لغةَ الأجدادِ بالتدريج، وحتى نجد سعةً من هذا الضيق اللغوي بسبب قصورِنا عن الاتِّساع في لغة العرب.. وأما اللغة الجمالية عند كثِّ ما في العواطف، وبث ما في الشجون، وإرادة التعبير الأرقى بالتصوير والإيحاء، وإرادة فاعلية المرسل وتفاعل المتلقي: فذلك له وسائل من الإيقاع الأخَّاذ نستطيع أن نعيشها ونعجز عن وصفها.. ومادة اللغتين: إما إيحاء بذوبٍ عاطفي، وإما إطلاق السجية لتأمُّلٍ فكري أو سبْحٍ خيالي، وإِمَّا اختطاف حكمٍ عقلي رصين يُخشى أن يكون من المَنْسيَّات، وإما اهتبالُ بادرةٍ علمية نادرة، وإِمَّا تكميلٌ أو تصحيحُ أو تفسيرُ أو محاكمةُ مَا هو مطروح من قضايا العلوم النظرية فكراً أو ثقافة.. لِيَسْبَحَ سَبْحاً جماليّاً لُغَتُهُ الإيحاءُ، وفكره تحَسُّسُ مجالي الجمال، وعِلمِيَّتُه رَصْدُ ظواهر البهجة التي يبعثها الموضوع في الوجدان، ورصدُ أحوالِ ذوي البهجة من السُّـذَّج ومحدودي الثقافة إلى ذوي التربية الثقافية العالية؛ لتصنيف الجمال الوجداني الفنِّي تصنيفاً فئوياً؛ فهذا مَادَّةُ الْمُرْسِلِ تكونُ فِيْهِ الجماليةُ: شعراً، ومقالة فنية، وقصة، وأقصوصة، وَأُحْدُوثَة، وحكاية، ورواية، ومسرحية.. مع ما يُستقْطر من الفنون الجميلة الأخرى.. إلا أنني أشترط معيار العظمة والكمال؛ لأنَّ المفكِّر يجد في ضرورات العقل التوصيةَ بالعقل العملي التجريبي.. أعني العقلَ الأخلاقي؛ ليكون الجَمالُ جلالاً.. والفنان غير المُتمزِّق لا يكون متفرغاً للوجدانيات، ولامقصِّراً فيها أيضاً، بل يكون حاذقاً عَاْمِيَّةً من الجمال الفَنِّيِ؛ ليؤدِّيَ جمالَه الفني باللغة التي تناسبه، كما أن لِمشاربِ القُرَّاء المتعدِّدة حقَّ المراعاة في جملها.. وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريبٍ إنْ شاء الله تعالى، والله المُسْتعان.