د. حسن بن فهد الهويمل
إن هناك مفاهيم خاطئة، وتصورات شاذة، ورؤى غريبة، وواجبنا اختيار القدرات العلمية، والتربوية، لمعالجة الأوضاع، وتطويق المشكلات، والحيلولة دون استفحال الاختلاف.
ورجل التربية، التعليم، خير من ينهض بهذه المهمة، ويتلقى أَزِمَّةَ الأمور. فهو وحده الذي خبر النفوس، وأحوالها، والمشاعر، وتقلباتها.
وكيف نتلمس من غير أولئك، وهم الذين يُسهمون في صناعة الإنسان في مختلف مراحله الدراسية:
[وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة
جاءت على يده البصائر حُوْلا]
إن الجيل أمانة في أعناق رجال التربية، والتعليم. والأستاذ في فصله، يسلمه الناس فلذات أكبادهم، وفعله أخطر الأفعال. إنه كالطبيب الجراح داخل غرفة العمليات، فإذا كان الطبيب يستأصل الفساد، ويزرع الأعضاء، فإن المعلم يصحح المفاهيم، ويزرع القيم، ويهيئ الأذهان، لمواجهة الحياة بكل تقلباتها.
والجهات المعنية حين تقيم مثل هذه اللقاءات، بين الحين والآخر، تثق بأن المعلم خير من يبادر لتصحيح مفاهيم الناشئة، وصقل مهاراتهم.
وتقلبات الطقس السياسي، وتسرب الأفكار الضالة، وتسلل دعاة السوء، وانسيابهم كالخدر، لا يمكن أن يواجه إلا برجل التربية، والتعليم. فهو الحصن الحصين لحماية ثغور الأفكار، وتوعية الناشئة، وتحصينها من التلوث الفكري.
لقد عانت [المملكة العربية السعودية] من تلك الانحرفات، وتعرضت لتفلت بعض الشباب على آبائهم، وأمهاتهم، وأهل الحل، والعقد في بلادهم. وتهافتوا على بؤر التوتر. وأضاعوا مستقبلهم. وعرَّضوا حياتهم، وسمعتهم، وسمعة بلادهم للخطر.
وواجب المقتدرين من العلماء، والمعلمين، ورجال الإعلام، مواجهة هذه الظاهرة، وعدم الاستخفاف بها. فمسؤولية الجهاد بالسنان فرض عين، حين يقتحم العدو أرض الوطن. والجهاد باللسان فرض عين على كل مقتدر، حين تندلق أقتاب الأفكار الضالة، ويظهر أثرها في أوساط الشباب.
إن واقع الأمة العربية ينذر بالخطر، فشباب الأمة سريع التأثر، سريع الاستجابة، لدعاة السوء.
ومفهوم المواطنة التي يطرحها أصحاب الفكر الضال، تقود البلاد إلى مهاوي الفتن.
ودعاة السوء يستدرون العواطف الدينية، ومن ثم يركزون على تزييف الوعي، وتوهيم الشباب، بأن الولاء للوطن بمفهومه السياسي، مخالف للمفهوم الإسلامي. فالأمة الإسلامية أمة واحدة، وأرض الإسلام هي الوطن الحقيقي، وينطبق على هذه الرؤية مقولة علي ـ رضي الله عنه - [كلمة حق أريد بها باطل].
وهم بهذا التضليل المتعمد، يخادعون الشباب البريئ، ويوهمونه بأن هناك تعارضاً بين تلك المفاهيم.
والحق أن المواطنة تشكل دوائر. فالإقليم السياسي جزء من الوطن الأكبر، والولاء للوطن السياسي لا يتعارض مع الأممية بمفهومها الصحيح.
ودعاة السوء يُنهكون نصوص التشريع بالتأويلات الفاسدة، ويمعنون في تزييف وعي الشباب الذين يحملون طهر البراءة، والفِطَر السليمة.
هذه الظروف التي فُرِضت على العالم الإسلامي، تُحتم على أبناء الوطن، أن يعرفوا حق وطنهم الذي يعيشون فيه، وحق أمتهم التي ينتمون إليها. وليس من المعقول أن يدمر المُضَلَّلُ مثمنات وطنه: الحسية، والمعنوية، تحت أي مفهوم.
إن وطننا يحمل خصوصيات، لم تتأت لغيره. فهو أرض القداسات، ومأرز الإيمان، ومأوى الجسد الطاهر، منه انطلق الإسلام إلى آفاق المعمورة، وعلى يد رجالاته نُقلت الحضارة الإسلامية.
وحين يخدعنا دعاة السوء، للتفريط بهذه المثمنات، نكون وبالاً على وطننا، وعلى أمتنا الإسلامية، التي ترى أن أرضنا مأرز الإيمان، ومهوى الأفئدة.
لقد تعددت المذاهب، والأحزاب، والطوائف. وأصبح الإنسان في لجة من أمره، لا يعرف المحقَّ من المبطل. وواجبه في ظل هذه الفوضى أن يلزم جماعة المسلمين، وأن يلتزم بمحققات البيعة الإسلامية، القائمة على توحيد الكلمة، والصف، والهدف.
[المملكة العربية السعودية] حمَّالة لهموم المسلمين، سبَّاقة إلى العطاء، والمساندة، وواجب إنسانها أن يكون ردءاً لوطنه، ولقيادته، لتواصل عطاءها، وتساند الجماعات، والأقليات الإسلامية، في مختلف دول العالم بالإمكانيات كافة.
إن وطناً شرفه الله بخدمة الحرمين، وحمَّلت قادته تطهير بيته للطائفين، والعاكفين، والركع، السجود، لجدير بأن يكون أبناؤه على وعي تام بما يحاك لهم من مؤمرات قذرة.
إن وطناً أسسه آباؤنا، وأجدادنا بقيادة الملك [عبدالعزيز] - رحمه الله - لجدير بأن نحافظ عليه، وأن نحول دون دعاة السوء الذين يريدون أن نكون أعداءً يضرب بعضنا رقاب بعض.
لقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من هذه الفتن. وقال:- [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض]. وفي عهد الخلافة الراشدة، ذرَّت الفتن، واعتزلها عُقلاء الصحابة، ونحن جديرون بأن نتعظ بغيرنا.
وليس بإمكان أي وطن مضطرب أن ينشئ دولة متحضرة، فالاستقرار شرط للتنمية.
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم، في [مكة] ثلاثة عشر عاماً لتهيئة الوطن القادر على الانطلاق إلى آفاق المعمورة. ولما لم يهيئ الوطن القادر على استيعاب رسالته، أذن الله له بالهجرة إلى [المدينة] لينطلق منها إلى آفاق العالم.
وأي وطن مضطرب لا يمكن أن يتسع لخطط التنمية بأشكالها كافة. وأعداء هذا الوطن يريدون له فَقْدَ مؤهلات التنمية، والدعوة، ومساندة العالم العربي، والإسلامي.
إن أمامنا وطناً عربياً يغلي بالفتن، ويختنق بالطائفيات، ويتعثر بالحزبيات، وكل طائفة تَدّعي أن الحق معها، وإن قولها الفصل، وأنها الفرقة الناجية المنصورة. ولما تزل الدماء تتدفق، والذل يستشري، والخوف يعم، والجوع ينتشر، وكل طائفة تُصر على أنها الفرقة الناجية.
ووطننا وقد أنعم الله عليه بالأمن، والرخاء، والاستقرار، جدير بأن نمنحه حبنا، وإخلاصنا، وولاءنا، وأن نعضَّ على مكتساباته بالنواجذ.
ولاسيما أن الأعداء يلتفون كحبل الفجيعة حول أعناقنا، ويلتمسون النفاذ إلى أفكارنا، بفاسد القول، وإلى أرضنا بالهرج، والمرج، لنفقد رسالتنا الدعوية، والإصلاحية.
ولحفظ المكتسبات لابد من تأهيل الدعاة، والمصلحين، والتربويين، للنهوض بهذه المهمة الصعبة.
والمقتدرون من العلماء، والمعلمين، والإعلاميين، هم خير من يخوض هذا المعترك الشرس، مع دعاة السوء، الذين يتحينون الفرص، ليختطفوا شبابنا، ويزجوا بهم في مواقع الفتن، فيشوهوا سمعة البلاد، ويشغلوا قادتها عما نذروا أنفسهم له من بناء للإنسان، وتنمية للوطن، ومساندة، ومساعدة، للأشقاء الذين ابتلاهم الله بالفقر، والفتن.
والمسؤولية الآن بلغت فرض العين. فالبلاد مُخترقة، والخلايا النائمة تتحين الفرص لتمارس التخريبَ، والتضليل.
وإذا كان رجال الأمن يمارسون مهماتهم بجدارة، ويواجهون الأحداث بشجاعة، ويحققون النصر تلو النصر، فإن هذا النجاح لا يُعفي حملة العلم، والفكر من المشاطرة، وإقامة السدود، للحيلولة دون اختراق ثغورنا الفكرية.
لقد استطاع رجال الأمن، والدفاع حماية الثغور الأقليمية، وضربوا أفضل الأمثلة على صد أي اختراق بشري، وحسهم الأمني مضرب المثل، ومثار الإعجاب، والإكبار. وواجب العلماء، والمعلمين، والمفكرين، والأدبا، والإعلاميين توحيد صفوفهم، وكلمتهم، لتحقيق النجاح في حماية الثغور الفكرية.
فوطننا مستهدف، وأعداؤنا يملكون من الجلد، والإمكانيات ما يوجب علينا المواجهة بالمثل.
ومثل هذه اللقاءات التربوية، التوعوية جديرة بأن تتمخض عن ميثاق وطني، يلتزم به كل مكلف، وأن تكون مُهمة كل مقتدر التوعية، وصقل المهارات، للتصدي، والتحدي، والصمود.
فنحن في أتون الفتن، وواجب وطننا أن نقدم له ما نستطيع من الحماية: الحسية، والمعنوية.
وخيراً فعلت وزارة التعليم حين عقدت مثل هذه المؤتمرات، وتابعت اللقاءات، للوقوف على الاستعدادات المتكافئة مع الواقع المُخيف.
وإني لأرجو أن يتمخض هذا اللقاء عن توصيات، ونتائج، وميثاق شرف تصب في تنمية قيم المواطنة، فما عاد بالإمكان التردد، والتسويف:
[وإن فساد الرأي أن تترددا]
نسأل الله أن يقي وطننا مُضلات الفتن، وأن يحميه من دعاة السوء، وأن ينقه من الفئات الضالة، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.