د. حسن بن فهد الهويمل
في جلسة صاخبة، مندلقة الأقتاب، مختلطة الآراء، والتصورات، في إحدى (لوبيات) فندق (الانتركونتننتال سيتي ستار) بالقاهرة. كنت أرقب بصمت تناجي الأطياف الفكرية، والسياسية، من مختلف الأقطار العربية، الوافدة على مصر،
للتزود من (معرض الكتاب) أو لإحياء مناسباته الثقافية.
وكان التناجي متداخل الأصوات، مرتفع النبرات، يراوح بين الحِدَّة، والحَدِّية، والإقصاء، والتجهيل، وشيء قليل من الموضوعية.
ولأنني أحد المشاركين في الفعاليات، فقد كان لزاماً عليَّ أن أشاطر المتناجين نجواهم بحذر: (وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي إِنَّ النَّفْس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).
الواقع الفكري، والسياسي، والديني في الوطن العربي، يُمِدُّ غواةَ الحديث بما يُصَعِّد الخلاف، ويعمق الشحناء، ويزيد في الاحتقان.
وكيف لا تَستحكم حلقات الأزمات! وكل متحدث يرى أن قوله الفصل، وأنه لا معقب لحكمه!
والمأساوية أن التشرذم على أشده، وأن أطراف التنازع يضخون جاهزيات الأحكام المهترئة، وكأن الأمر قد قُضيَ بليل، ولم يعد هناك مجال للاستفتاء، أو المراجعة، أو التساؤل.
والأشد مضاضة، ومرارة أن الملتفين حول بعضهم، بأجسادهم، تتنافر آراؤهم، وتتباعد تصوراتهم، وتحتدم مشاعرهم، ويغلي ارتيابهم ببعضهم، ثم لا يجد أحدهم الرغبة في التقريب بين وجهات النظر، أو تجسير ما بينه وبين جليسه من فجوات. بل لا يجد في هذا التنافر ما يدعو إلى التفكير في تصفية الخلافات.
والطامة الكبرى في التناجي الآثم، يتمثل في الخلط بين الفكر المعرفي، والفكر الحركي، المُتَلَبَّس بهما من كل الطوائف، والأحزاب.
قد يختلط الأمر عند البعض منا، بحيث لا يفكر في مثل هذه التفصيلات الدقيقة. ولربما يَحْرم أحدنا نفسه من التزود المعرفي من مفكر يختلف معه في فكره الحركي، ولسان حاله يردد: (كلانا غني عن أخيه حياته).
ولكيلا تلتبس الأمور على المتلقي، أشير إلى أن عدداً من عمالقة الفكر المعرفي جُرّتَ أقدام بعضهم، وزجوا في أتون الفكر الحركي.
والشهرة شهوة، متى راودها المغرر به، نكب عن ذكر العواقب جانباً.
والدارسون المعرفيون، لا يغمطون مَدْرُوسيهم، وإن اختلفوا معهم في بعض ما يذهبون إليه.
وأي مفكر مثير، لا بد أن تكون له تحولاته الفكرية، التي تكثر سواده، أو تضاعف خصومه. وتلك من الظواهر المألوفة. غير أن تقويم التحولات، يحدد قيمتها، ومراوحتها بين السلب، والإيجاب.
فلو ضربنا المثل بالمفكر المثير (عبدالله القصيمي) لوجدنا فكره راوح بين السلفية، والاعتزالية، والإلحادية الهدمية.
وهو في هذه التحولات يقارب الفكر الحركي، وذلك عندما حَمَلَ على المد الثوري العربي، وسخر من مختلف الصيغ السياسية، حتى لقد تشرد، وتصعلك بسبب هذه الرؤية الاستفزازية، غير المؤصلة، وغير المحررة.
ولك أن تقول مثل ذلك عن (سيد قطب) -رحمه الله- لقد نسل من عباءة المفكر العملاق (عباس محمود العقاد)، وكان أديباً خالص الأدبية. ثم تحول فجأة إلى مفكر إسلامي غير منتمٍ، ثم التف عليه حزب (الإخوان المسلمين) فانسلخ من فكره المتوازن إلى فكر حركي عنيف، آل به إلى السجن، ثم القتل.
ولك أن تقول فوق هذا عن (يوسف القرضاوي) وعن آخرين، خَلَّفوا لنا ثروة فكرية معرفية، لا شية فيها. وحين أغرتهم الأضواء، واستدرجهم الإعلام الفضائحي، خرجوا من عباءة الفكر المعرفي، والتفوا بعباءة الفكر الحركي. ومن ثم تصدى لهم الإعلام المضاد، فسلبهم ما سلف، وخلط أوراقهم، بحيث لم يفرق بين فكرهم المعرفي غير المسيس، وغَيْر (المؤدلج) وفكرهم الحركي الاستفزازي، وما آلت إليه أحوالهم من تقلبات الطقس السياسي.
والقول بحق الأفراد، لا يختلف عن القول بحق المذاهب، والأحزاب، والطوائف.
لقد كنا في غفلة عن حزب (الإخوان المسلمين) و(الطائفة الشيعية) و(الزيدية) و(حزب الله) يوم أن كانت تتبادل مع ما سواها من الأحزاب، والملل، والنحل على قدم المساواة، ولا تتجاوز حقها المشروع، وحَدَّها المرسوم.
بل لقد كنا نتعمد توفير الأجواء الملائمة، التي تكفل لها الحرية، والكرامة، وممارسة طقوسها، وشعائرها بحرية تامة.
ولما تقحمت أتون الفكر الحركي، وتلقت رايات اللعب السياسية، وخرجت من ممارسة حقها المشروع إلى فرض هيمنتها على من حولها، وتعمدت مصادرة حقوق الآخرين، وفرض رؤيتها بالقوة، والقتل على الهُويَّة، أصبحت بهذه المغامرات خلقاً آخر. بحيث بادلتها الأطراف الأخرى العداوة، والبغضاء، وأوجفت عليها باللسان والسنان.
وبهذه الفوضى غير الخلاقة، تمكن العدو الحقيقي من تصعيد الخلاف، وإشعال الفتن، وتعميق العداوة.
حتى لقد أصبح القضاء المبرم على الخصم عقيدة متأصلة، لا حلاً مرحلياً، يمكن التخلي عنه، متى صفيت الخلافات.
لقد كان جيلي في مطلع شبابه، لا يفكر بالطائفية، ولا بالمذهبية، وكل همنا مُنصب على ملاحقة ما يجد من أفكار، وما يتغير من رؤى.
ولقد نقبل الفكر المخالف، ونهيء له الأجواء الملائمة، لكي يعطي أكثر. والنبلاء من يبذلون وسعهم، لتمكين المخالف من التعبير عن رؤيته.
وإذا كان التاريخ السياسي يعيد نفسه، فإن التاريخ الفكري هو الآخر يعيد نفسه. فـ(المعتزلة) حين تَبَنَّى فكرهم (المأمون) استفحل الخلاف بينهم، وبين (السنة) وطورد علماء السلف، وضيق الخنَاق عليهم، وبدت في المشهد الفكري طاهرة (المحنة) واختلف المفكرون حول حجم المطاردة، وإيذاء الإمام (أحمد).
المؤكد أن المطاردة، والسجن حدثت في عهدي (المأمون) و(المعتصم) وانفرجت الأمور في عهد (المتوكل) بحيث أصبح علماء المعتزلة، وعلماء السنة يمارسون الفكر المعرفي على قدم المساواة. وأصبح (الجاحظ) و(الزمخشري) من أساتذة أهل السنة، والجماعة. وهما أئمة الاعتزال. وأصبح (الأصبهاني) صاحب (الأغاني) إمام دار الأدب وهو مَتَشَيِّعٌ كذاب.
وكلما جُرَّت أقدام المفكرين المعرفيين إلى أتون اللعب السياسية، تقلصت المعرفة، واستفحل الخلاف، والتنابز بالألقاب، واختلطت الأمور، وحُرِمَت المشاهد الثقافية من استثمار جهود العلماء، وطال التصنيف الفيوض المعرفية، وصودرت الكتب التي لم تتلبس بالفكر الحركي.
لقد كان من بين المجالدين، والمجاهدين في تلك التحلقات (اللوبية) الدكتور (أحمد مجاهد) رئيس (هيئة اتحاد الكتَّاب) في مصر، وكان يتحدث بمرارة عن اختلاط الرؤية حول كتب بعض العلماء، والمفكرين، التي لم تتلبس بالفكر الحركي الذي انزلقوا في مستنقعاته. حتى لقد وجِّه له الاتهام حين لم يمنع عرضها. ورؤيته صائبة إذ (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
وكيف يتأتى لنا الحجر على كتب (عبدالله القصيمي) التي نافح بها، وكافح عن الدعوة الإصلاحية!
وكيف يتأتى لنا أن نحجب كتابه القيم (الإسلام والوثنية) وهو كتاب يفند فيه آراءً طائفية متطرفة بحق الإسلام السلفي.
ولو حجبنا فكره الصالح، والطالح، لفوتنا على أنفسنا إضافة فكرية معرفية، تعضد رؤيتنا، وتسند موقفنا الفكري المعرفي.
لكل هذا يجب ألا نكون مندفعين، متحمسين، نأخذ المقيم بالضاعن، والبريء بالمتهم.
إنَّ هناك تلبسات فكرية حركية طارئة، يتحتم علينا الوقوف ضدها، والمواقف الطارئة تحتم علينا احترام المصداقية، وإنصاف الخصم، وتمكين فكره السوي من النفاذ. فذلك أجدى وأهدى.
والذين استفزوا المشاهد بفكرهم الحركي، نتعامل معهم فيما جَدَّ عندهم، لا فيما سلف من إفضاءات نحن أحوج ما نكون إليها.
كما يجب أن يكون حِجاجُنا بعيداً عن التجريم، والتخوين، ومصادرة حق الآخر، لأن الإيغال في هذه المهايع تُفْقدنا المصداقية، والثقة، والقبول، وتَزجنا في أتون اللعب السياسية، التي لا يَقَرُّ لها قرار.
إنني كغيري ممن يتحرى الحقيقة المجردة من الهوى. نسمع، ونرى من يوجف بلسانه، وقلمه، ويقترف خطيئة المصادرة العنيفة لحقوق الطوائف، والأفراد الذين زلت بهم الأقدام، بعد أن أبلوا بلاءً حسنا في فضاءات العلم، والثقافة، والفكر المعرفي.
وماذا علينا لو فَصَّلنا القول، واعترفنا بالحق، وآخَذْنا على المُقْتَرف. وأنصفنا الخصم، وتوقينا التعميم، واتَّشَحْنا بالثقة، وتركنا الباب مفتوحاً لأوبة الآبق.
إن ذلك من عزم الأمور.