د. حسن بن فهد الهويمل
من حق أحدنا أن يتساءل:
لماذا نلح على المواطنة، وتضخيم الهوية؟
لقد كنا من قبل ممتلئين بحب الوطن، معتزين بتجلي الهوية. وما من أحد دفع بنا إلى ذلك، لا بالقول، ولا بالفعل.
واليوم تتسابق مؤسسات التعليم، والتوعية، والدعوة، والإعلام لاستنهاض العزمات، وشحذ الهمم، للنهوض بالقدر الكافي من هذه الأخلاقيات الإسلامية.
المغموس في أحداث العالمين: العربي، والإسلامي يجد المبرر الكافي، لتكريس هذه المفاهيم، والتفجع على فقدها، أو تضاؤلها، أمام ما سواها من الانتماءات الأممية، والطائفية، والحزبية، والعرقية، والتأكيد على تعزيز قدرات القواد التربويين، منهجياً، ومعرفياً.
فالوضع القائم لايحتمل السكوت، ولا التردد. ولاسيما أن حركات التضليل موجهة إلى الشباب.
والقائد التربوي يباشر مهمة تشكيل وعي الناشئة. وحين يغفل، أو تضعف قدراته، يجد دعاة الضلال فرصة لتصدير رؤيتهم التدميرية؟،؟ وسط التحولات الفكرية، التي تجتاح عالمنا العربي، بفوضوية، لا نظير لها.
وليس غريباً في ظل هذا الانفلات الفكري، أن تتبادل [الأيديولوجيات] المواقع، وأن يكون الإنسان في يوم من الأيام أُممياً، ينسى وطنه في سبيل ذلك. أو حزبياً يدمر وطنه من أجل ذلك. أو طائفياً متعصباً يَدْلُقُ لسانه، ويشحذ سنانه، لقطع دابر من يخالفه الرأي.
هذه التقلبات الطقسية المخيفة،والمربكة، تحمل أهل الذكر على الأخذ بحجز المتهافتين على سراب القيعان.
والقائد التربوي في هذه الظروف، يمثل الخط الأمامي. ومن ثم لابد من إيقاظ همته، وإكمال آلياته، وتزويد معارفه، ليخوض هذا المعترك المحفوف بالمخاطر باقتدار.
وإذا كانت ثغور الديار تُحفظُ بالجنود، والعتاد، فإن ثغور الأفكار لاتقل أهمية، ولا خطراً.
ولا بد - والحالة كذلك - من تجنيد رجال التربية والتعليم، وتأهيلهم لتحمل هذه المسؤولية، لحفظ الثغور الفكرية من نفاذ دعاة السوء.
وحين يجد العدو غفلة عن الثغور الفكرية، أو نقصاً في المناهج، والآليات ينفذ من أيهما شاء.
ولقد يكون من السهل إخراجه من الديار، دون أن يترك أثراً. أما نفاذ لوثاته من ثغور الأفكار فإن عملية التطهير، فضلاً عن الحماية من الخطورة، والأهمية، بحيث تتطلب خططاً، وخرائط، وزمناً متطاولاً، لصد القادم، وتفتيت القائم.
ونحن في هذا التذكير نحاول الإثنتين: حماية الثغور من تسلل الأفكار، وتطهير ماعلق فيها من وضر المعارف، والآراء، والتصورات الخاطئة.
ولربما تكون حقول التعليم، والتربية، والإعلام هي المجالَ الطبيعي لممارسة الصد، والتصفية، والتربية على القيم الوطنية السليمة. ويكون رجال التربية، والفكر، هم خير من ينهض بهذه المهمة الشريفة، والشاقة في آن.
إن ظاهرة الإرهاب، والولاء الأممي غير السوي، والتعصب الطائفي، والانتماء الحزبي، وتصنيم الرجال الجوف، وتهميش النص، والتسليم لكل ناعق من المصميات، التي حملت طائفة من أبناء الوطن على التهافت على بؤر التوتر، والنزاع.
وليس هناك أغلى من الشباب. إنهم عدة المستقبل، ورجالاته. ومتى صُنعوا على عيون زائغة، وشُكِّلت أفكارهم على ما يَجدُّ من مذاهب، واتجاهات، وعقائد فاسدة، فَقَدَ الوطن أغلى مايملك، وضعفت جبهته الداخلية، وتفككت لُحمته، وتهاوت مثمناته، ومكتساباته، وعاد الضرر على المواطن نفسه، الذي لزم الصمت، أو فَضَّل الحياد.
إن مسؤولية التصفية، والتربية، مسؤولية كل مواطن مقتدر، فنحن في زمن تتلاحق مصائبه، وتتتابع انهيارات قيمه.
وحين نركز على القطاع التعليمي، فإننا لا نقلل من دور العلماء، والمفكرين، والإعلاميين.
واهتمامنا بدور القائد التربوي مرتبط بعلاقته المباشرة بالشباب، ودوره الفاعل في تكوين الوعي، والتصور.
والمؤكد أن الشباب ببراءتهم، وسلامة نواياهم، وحماسهم، واندفاعهم، هم المجال الخصب لبذور الشر، ومن ثم لابد من مزيد العناية بهم.
ولسنا بحاجة إلى ضرب الأمثال عن تهافت الشباب على بؤر التوتر، وسرعة استجابتهم لدعاة السوء. وإختلال الأمن، واستشراء القتل، وضياع المثمنات، وتفكك الأمة: فكرياً، وإقليمياً.
وعسى أن نرفع دعوى [الغزو] و[المؤامرة] إلى حين، لنحاسب أنفسنا، ونسائلها عن الدور الذي مارسه المقتدرون.
فالأمة لاتكون ذليلة، مُهانة، وضعيفة إلا باختيارها. ودور صناع الفكر، والسلوك في تعزيز قيم الكرامة، والأنفة يعد من فروض العين . ولن يتأتى ذلك إلا بتظافر الجهود وتنسيقها .
الأمة العربية في محنة، والقادرون منها لم يفكروا في ترتيب أمورهم، لإيقاف هذا النزيف، والحد من هذا التدهور، والبدء في رحلة العودة إلى الحياة السوية.
ولأن [المملكة العربية السعودية] قد نجت من هذه الانتكاسات، واحتفظت بتماسك جبهتها الداخلية، ولم تتعرض للفوضى الهدامة، ولم يمسها فراغ دستوري، يوقظ الفتن النائمة، فإن واجب رجال التربية، والتعليم، وقادة الفكر، والدعوة، والإرشاد، والإعلام أن يَحُوْلوا دون انْفِلات العقد، والانزلاق في مهاوي الفتن.
نحن وسط اللهب، ولكننا بعد لم نحترق، وواجبنا أن نُقَدِّر الظروف القائمة، وأن نتعامل معها بما يليق بها، وألا نركن للكسل، وألا تأخذنا الغفلة، وألا ننتظر من الآخر حماية ثغورنا الجغرافية، والفكرية.
قبل الخوض في لجج القضايا المتعلقة بالوطن، والمواطنة، بكل مكوناتها: الحسية، والمعنوية. وقبل تلمس محققات الهوية، دعونا نتساءل عن مفهوم المواطنة، والهوية. وبأي فعل نحقق المواطنة السليمة.
فهل الوطن تلك المساحة الجغرافية التي يطلق عليها اسم [المملكة العربية السعودية]؟
أم أن هذه المساحات الشاسعة، أوعية تفيض بالقيم، وهي التي يتجسد من خلالها الوطن؟
هل الوطن أرضاً، أو نظاماً، أو هو سلوكيات، وقناعات؟
هل الوطن كُلٌّ لايتجزأ، أو هو لبنات متفاضلة، أو متراكمة؟
هل حب الوطن بمفهومه السياسي، يتعارض مع حب الوطن بمفهومه الإسلامي؟
إننا أمام تساؤلات متلاحقة، وأرآء متعارضة، بل متناحرة، يسوقها الجُوفُ، والممتلئون.
ولكي نعرض رؤيتنا، لابد من تأصيل المسائل، وتحرير المعارف. إذ لا يمكن أن نتجاذب أطراف الحديث حول قضايا لم نتفق على مفاهيمها، وحدودها.
الوطن مصطلح عُرِف منذ أن عَرَفَ الإنسان مكان مولده، ومرتع صباه، ومسرح شبابه، ومجال أدائه في كهولته، وشيخوخته.
الوطن أرض، وإنسان، ونظام، وقيم، لايقوم بعضها بدون بعض. فعلاقتها مع بعضها كعلاقة الجسد بالروح. فالجسد مانراه من أرض، وجبال، وبحار، ونظام.
والروح مانشعر به من تلاحم، وتداعي، وتآلف، ولا نراه رأي العين.
الوطن لوحة فسيفسائية، ونسيج متداخل، لايمكن تصور جزء منه دون الآخر.
ولكل وطن مسمى، يجمع شتاته، ويحدد أبعاده. ووطننا نسيج مُسمى بـ[المملكة العربية السعودية] أرضاً، وعقيدة، وقيماً، وإنساناً، وتاريخاً، ونظاماً، توارثناه أباً عن جد. ومن أراده بغير هذه الصفات، وبغير هذه المكونات، فقد خان أمانته.
ولسنا وحدنا المسؤولين عن تصحيح الواقع، فالتقسيم السياسي فرض نفسه، ولم يعد باقتدار أحد أن يضحي بمكتسبه الأقليمي لرؤية غرائبية .
وعلى المقتدرين رد المخالف إلى جادة الصواب بالرفق، واللين، والحوار الحضاري، فالأمة منهكة، وليس بمقدورها أن تخوض معترك الصراع مع نفسها.
...يتبع