د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف
أنشئت وزارة التعليم العالي في 1975م وكان في المملكة آنذاك جامعتان فقط، ولا يوجد أي مرحلة من مراحل التعليم الجامعي الأهلي، ولذا كان ذلك مكان تندر البعض الذي رأى أن الوزارة أنشئت من أجل أن يتولاها الوزير. ولكن مسيرة التعليم العالي تواصلت وزاد عدد الجامعات إلى ثمان ثم ست وعشرين.
ويضاف لها عشر جامعات أو نيف من الجامعات الأهلية، وقارب عدد طلاب وطالبات الجامعات الحكومية اليوم المليون ومئتي ألف طالب، والجامعات الأهلية المئة وعشرين ألف طالب. وبلغ عدد الطلاب والطالبات في بعض الجامعات كالملك سعود وأم القرى قرابة الستين ألفا مناصفة تقريبا بين الجنسين.
وحظي التعليم العالي بدعم ضخم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله فرفعت ميزانيات الجامعات لأرقام ضخمة نسبيا، وعلت مباني الجامعات وكثر مبتعثوها. وأضاف لهم رحمه الله مئتي ألف طالب مبتعث في جامعات في كافة أصقاع الأرض لمختلف الشهادات العليا. وكل المؤشرات توضح أن الدعم مستمر في عهد الملك سلمان - حفظه الله - لأن أول القرارات الجذرية في عهده كانت من نصيب التعليم. وربما تكون المملكة من أعلى الدول نسباً فيما يتعلق بنسب عدد الشباب والشابات إلى عدد الملتحقين منهم بالتعليم الجامعي. وأصبحت الشهادة الجامعية مطلباً لجميع الشباب السعودي، بل إن بعض جهات التدريب والتعليم الأخرى كالتدريب العسكري أو التقني أصبحت تشترط الشهادة الجامعية للقبول بها. وتغبطنا دول كثيرة على نسبة الشباب المؤهل لدينا، لكننا وللأسف حتى الآن لم نستفد منهم على الوجه المطلوب.
فمع كل هذا الصرف على التعليم العالي، وتخريج مئات الآلاف من الشباب سنوياً، بقيت نسبة البطالة عالية بين الشباب بسبب غياب التخطيط وعزوف القطاع الخاص عن توظيف السعوديين، وفتح باب العمالة والاتجار بالفيز بشكل أضر بالبلاد بشكل كبير. وبرر القطاع الخاص عزوفه عن توظيف الشباب السعودي بعدم ملاءمة مخرجات الجامعات لحاجات سوق العمل المحلية. وبدأ البعض بترديد هذه المقولة المغرضة بالرغم من غموض عبارتها ومفرداتها. وبدا الأمر وكأنما سوق العمل البدائية لدينا تحتاج لعمالة تأهيلها فوق مستوى تأهيل الجامعات، بينما هي تستورد عمالة وافدة أمية!! فلا أحد يعرف بالضبط حاجة السوق السعودي، بل إن السوق ذاته فشل في تحديد حاجته بشكل مفهوم ومحدد، واكتفى في أحيان كثيرة باستيراد الشركات الأجنبية بكافة أطقمها وعمالتها. ولم يحدد أحد بالضبط معنى كلمة ملاءمة ولا طبيعتها ولا خطوطها العريضة ولكن الواضح هو أن هذه المقولة، أو التهمة بمعنى أصح، وضعت الجامعات في موقف لا تحسد عليه فأصبح بعضها يتخبط يمينا وشمالاً لتخريج شباب ملائم لحاجات السوق المبهمة والمتغيرة باستمرار، ونتج عن ذلك وللأسف تأثر العملية الأكاديمية ذاتها التي هي الرسالة الأساسية للجامعات، فلا رضي السوق ولا تطورت الجامعات، ولا مشينا كالحمامة ولا عرجنا كالغراب. ولم يتغير الوضع قيد أنملة حتى بقدوم آلاف الطلاب من خريجي أمريكا وأوروبا الذين اصطفوا في طابور العاطلين، واتضح على ما يبدو لا جامعات ولا معاهد في العالم أجمع قادرة على تلبية احتياج سوق العمل السعودي.
وتم اليوم دمج وزارة التعليم العالي بوزيرها ونائبه ووكلائه وإدارات عمومه بوزارة التربية والتعليم بدهاليزها المعقدة تحت مسمى وزارة واحدة هي «وزارة التعليم»، ولم تتضح بعد الرؤية التي تقف خلف هذا القرار، لذا فإنني وكثير مثلي ينتظرون اتضاح الرؤية حول هذا الدمج الذي ينشد بلا شك الصالح العام.
فالكثير منا يخمن أن الدمج قصد به اختصار الهياكل البيروقراطية وإفساح المجال أمام إعادة هيكلة وإصلاح التعليم بكافة مستوياته بشكل جذري ومتناغم. فالحقيقة أن مخرجات التعليم في كافة مستوياتها وأشكالها لا تتناسب مطلقاً مع ما يصرف عليها. وما يهدر على اللجان والمباني والأنشطة الجانبية يفوق بكثير ما يصرف على الأمور الأساسية في التعليم، وما لم تُعكس هذه المعادلة بحيث يتم التركيز على البشر وليس الحجر فلا شيء يرجى من أي عملية دمج أو إصلاح. ولعل الخطوة الجريئة والصائبة من حل ما كان يسمى «المجالس العليا» تكون انطلاقة لهياكل إدارية أكثر مرونة وأكثر قابلية للمحاسبة.
ولكن لا بد من القول هنا إنه بدون إصلاح الجانب الآخر للمجتمع وهو سوق العمل فلا فائدة ترجى من إصلاح التعليم أساسيا كان عاليا أو مهنيا. فالشاب الخريج الذي لا يجد فرصة عمل فور تخرجه ترفع معنوياته ويطبق فيها ما تعلمه مباشرة سيكون استثماراً تعليميا خاسرا بكل المقاييس. والشباب في أي مجتمع إما أن يكونوا عنصر قوة وبناء للمجتمع ومصدراً لاستقراره أو عالة عليه ومصدر قلق دائم له. ويؤسفني القول هنا ألا أمل يرجى من بعض قطاعات الأعمال الأهلية الموجودة لدينا بشكلها الحالي ولاسيما أنها تتهرب بشتى المبررات من توظيف الشباب. لذا فعلى الدولة إذا ما أرادت حل مشكلة البطالة بشكل جذري، وتطوير التعليم مع ذلك توجيه موارد خطط التنمية القادمة نحو مؤسسات حكومية وشبه حكومية جديدة في كافة المجالات: إنشاءات، تصنيع، خدمات وربما تجارة أيضاً. مؤسسات تعتمد كلياً على الشباب السعودي، وهنا لن تجد المؤسسات الأخرى مناصاً من محاولة اللحاق بالركب بالركض وراء الشباب السعوديين لتوظيفهم، وسيتضح أن الشاب السعودي هو الأنسب لسوق العمل وسيتبرأ الجميع مما ردده سابقا، وسيرى السعودي بعين الرضى لا السخط.
المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية قد تتيح لمؤسسات القطاع الخاص الطفيلية فرصة تحسين أوضاعها باللحاق بركب التنمية المسعودة. وسنرى حركة السعودة تتم وتتسارع تلقائيا وبدون جهد يذكر ولا برامج ولا نطاقات، فالوظيفة السعودية للسعودي. والسعودة ستصبح مصلحة بعد أن كانت عبئاً. ولو نظرنا للموضوع من وجه نظر اقتصادية يتضح بشكل كبير أن نمط الاقتصاد الرأسمالي المتحرر كلياً وغير المنظم المطبق في الغرب لا يتناسب مع ثقافتنا وخصوصيتنا الاقتصادية التي تعتمد حتى الآن إلى حد كبير على ريع النفط وميزانية الدولة. وفي تصوري فإننا استوردنا حلولاً جاهزة من الخارج دونما مراعاة لهذه الخصوصية ولذا ظهرت لدينا بعض الاختلالات الهيكلية. وربما يكون الأنسب لنا نظام اقتصادي هجين بين الرأسمالية والمركزية، وهو نمط مجرب في بعض الدول المتقدمة بنجاح كالدول الاسكندنافية ولو بشكل مغاير. ومن الملاحظ اليوم أن المؤسسات الهجينة الحرة وشبة الحكومية كالاتصالات، وسابك، وغيرها هي الأنجح والأكثر توظيفاً للشباب في مجتمعنا. وقد سررت كثير بالقرار الأخير لتطوير مؤسسة حكومية للصناعات العسكرية، ولو أضفنا لها مؤسسات للمنشآت الحكومية، وأخرى للصناعات الخفيفة والتحويلية الخ.. لخلقنا نوعاً من المنافسة بينها وبين المؤسسات الخاصة التي تقتات على العقود الحكومية وتفرز البطالة المجتمعية وتزيد الضعث إبالة باتهام المؤسسات الحكومية التعليمية بالتقصير.
وفي النهاية فإنَّ الأهم هو تطوير الرؤى والاستراتيجيات التي تنهض بالتعليم والاقتصاد السعوديين. أعان الله وزير التعليم وكلي أمل بنجاحه في تحقيق أمل القيادة.