د.فوزية أبو خالد
وقفة استباقية
أقف أمام طالباتي في مقرر علم الاجتماع السياسي للدراسات العليا لأطرح عليهن وأحلل معهن وأناولهن طرف خيط الضوء السري لتمكينهن ما أمكن من تفكيك وإعادة بناء الواقع الذي تجري على أرضيته وتتطور بالجدل
معه مناهج ونظريات العلوم الاجتماعية. ذلك الواقع المتحرك الذي تتوالد من احتياجاته وتفاعلاته ليس فقط أدوات منهجية وتوجهات نظرية جديدة، بل وأيضاً علوم معرفية مستجدة. ويكون ذلك بتفصيل أدق ومخاضات أعقد مدخلاً لأبسط أمام الوجوه الشابة المشربة بأشواق العلم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً مسرح العبث الذي خرج من معطفه تاريخياً، وتحديداً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية علم الاجتماع السياسي. فمع الحربين العالميتين الأولى والثانية أوائل القرن العشرين بامتداداتهما إلى ما يقارب منتصفه وبانعكاساتهما على فترة الحرب الباردة إلى نهايتها لم تعد الحروب شأناً عسكرياً تبدأ وتنتهي بمواجهات محدودة في تقابل جيش بجيش يحصر خساراتها البشرية إلى حد كبير في الطواقم الحربية. فقد أدى التطور التقني الهائل في آلية الحرب وأساليبها والتقدم الضوئي في حركة النقل والاتصال بأنواعه إلى تغير طبيعة الحرب لتصبح شأناً عاماً تدفع الشعوب أثمانها الباهظة من الغيلة والتشرد والجوع والانخطاف والتشظي والسحل والانسحاق وخاصة الشرائح الرقيقة من قواها الناعمة كالنساء واليفع والأطفال والمسنين. وهذا ما اقتضى تطور علم كعلم الاجتماع السياسي بهدف طرح الاسئلة الاستباقية التي قد تحول بين المجتمعات وبين وقوع الشعوب والدول فريسة سهلة لأتون الحرب وفي محاولة اجتراح مساءلة الواقع السياسي والاجتماعي وتلك السياسات التي تؤدي إلى إشعال حروب خاطفة أو طويلة أو ماحقة.
وقفة مساءلة
أما اليوم في احتدام الحروب حولنا على مختلف حدود الوطن العربي، فأقف أمام نفسي وقفة متسائلة حائرة غائمة كمرآة متشظية، صامتة متجمدة كأنني صخرة صماء، مفرفطة تائهة كريشة عزلاء من كل ادوات المعرفة التي أفنيت عمري في مختبراتها. فما أنا إلا تلك النساء الفارات بحملهن أمامهن وبأسر كاملة على ظهورهن من جحيم الحرب إلى زمهرير وحرور المجهول. وما أنا إلا تلك السيدات المصفدات بقيود الالتزام الأسري وبانفلات الحال الأمني إلى هذا أو ذلك من فصائل الاحتراب الظلامية تتقصف قاماتهن أمامهن لولا التعلق بخيط رفيع اسمه الأمل. ما أنا إلا أولئك الصبايا المصدورات بصبابات الأسئلة كلما اعتصرت الحرب وطواعينها وغازاتها الكيمياوية الحارقة وذئابها ومرابيها وشبيحيها أرواحهن وصبتها في جماجم أطفال الشام والعراق وليبيا واليمن الطازجة. ما أنا إلا البوم والغربان والنسور المطاردة، الأطراف المقطوعة والعيون المقتلعة، الأجساد المتفحمة والدفاتر والكتب والصور والذكريات المحروقة والبيوت المتهدمة والأعمار المتجعدة قبل الأوان. ما أنا إلا تلك البلاد والشعوب والدساتير المتسائلة بأي ذنب تقتل تسحل تهان تتحول إلى وقود لحروب ليس لها قضية ولا ميثاق ولا علاقة لها بحق أو شرف.
كيف تعلج حروب مشبوهة حنان الأمهات, أحشاء البنات، رجولة الشباب, خاتمة الشيوخ، عقول المفكرين، كبرياء الحكام، ضحكات الأطفال اجتهادات العلماء, تنبؤات الشعراء مشيمة الولادات أمام شاشات العالم وليس من يحرك ساكناً إلا تحالفات لا تقل ريبة ومبعوثين دوليين مكفوفي الأيدي والأبصار وتطمينات لا تقل في تراجيديا سخريتها عن صب الزيت الحارق على النار. كيف وليس منا من يملك أدوات للتساؤل أو للدفاع عن النفس بدون أُوذونات واستعارات.
كل أدوات الاستفهام لا تكفي
بينما كتبت «ذا إكونمست» على موقعها الإلكتروني في موضوع الساعة أمريكا وإيران وخيار الاتفاق بما يبعث على التساؤل عن المتغيرات المحتملة على أرض الواقع خلال الجدول الزمني المقنن بعشر سنوات في الاتفاق الأمريكي الإيراني المزمع عقده في الرابع والعشرين من الشهر الحالي بخصوص إيقاف العمل ببرنامج إيران النووي مقابل رفع العقوبات عن إيران، فقد قرأت انشغالاً عربياً وخليجياً بالحصول على إجابات تطمينية أو البحث عنها او الوقوع في فخ وعودها. فليس إلا استثناءات قليلة اعترفت مثل ما أحاول ان أفعل الآن بعدم كفاية أدوات الاستفهام لمساءلة كرة الثلج والنار المنفلتة من الحروب المفتوحة في خواصر وحواضر العالم العربي. ومع أنني لا أشك أن شعوباً بحكوماتها ومعارضتها بطلقائها ومعتقليها يقلقها ويؤرقها ويوجعها الشك في تلك الحروب التي لم تقف عن الاشتعال في المنطقة بمعدلات غير مسبوقة وبأهداف مشبوهة لما يزيد اليوم عن عقد من الزمان فإنني لا أفهم لماذا نعجز أو نخاف من طرح الأسئلة. لا أفهم لماذا ننشغل كأمريكا و»إسرائيل» ببرنامج إيران النووي بينما نتخبط على أرض الواقع في مواجهة حروب مصيرية تخفي أجنداتها السياسية الدولي منها والإقليمي بإعطاء تلك الحروب هوية طائفية لن تؤدي إلا أن يطحن بعضناً بعضاً.
هل نخاف على مستقبل قد لا نعيش لنشهده وإن عشنا فإننا قد لا نشهد فيه إلا مزيداً من مذلاتنا لو عجزنا عن مواجهة حاضرنا ولو بمحاولة وضع حد لحروب المنطقة المشتعلة بأجسادنا وأرواحنا وأموالنا. هل يمكن أن نجد فينا ولدينا بديلاً لسياسة توسل أو تسول تطيب الخواطر كتطميانات جون كيري. إن المستقبل لا يخرج من الحاضر الخراب أو بالاعتماد على قوى لها مصالح قد تتناقض مع مصالحنا علها تمد لنا يداً أو رجلاً. قد تكون أمريكا صديقة لنا ولكن ليس على حساب مصالحها، هذه ألف باء السياسة ..ونفس الشيء يقال عن روسيا والصين والاتحاد الأوربي .. بل وحتى تركيا وإيران. إدارة المصالح المشتركة وأيضاً إدارة العداوات لا يكون بالمسلمات ولا بتسليم المقاليد لسوانا. وإلا ما الذي يجعل أمريكا تقبل التفاوض مع إيران ويجعل رئيس وزراء العدو الإسرائيلي قادراً على توبيخ الرئيس الأمريكي على شروط ذلك التفاوض والتباكي من قوة نووية محتملة إزاء امتلاكه الفعلي لتلك القوة النووية. إنه ليس سؤالاً سياسياً وحسب، بل هو سؤال إبيستمولوجي أيضا. وفي هذا السياق التساؤلي أذكر تعبير الزميل فهد العرابي الحارثي المشتق من الفيلسوف الفرنسي فوكو بأن المعرفة قوة والحرية أيضاً إن أردنا إلا نترك أمر السلام لعتاة الحرب وهواتها ومحترفيها وتجارها . فالمنطقة قد تغرق في حرب طائفية لها تفرعات قبلية ومناطقية وكل أنواع الانقسامات البدائية التي لا شفاء منها إلا بمزيد من التشظي والانحلال لا سمح الله إن لم نغير المسار الذي قادنا لهذه الحالة من الضبابية والاحتراب.
من بعد انكسار شوكة الربيع العربي في خواصرنا صرت أشعر بالألم والخجل من الكثير من الكتابات مثل ما أفعل في هذا المقال. كأنني أكتب موضوع تعبير فيما يشتعل حريق في قلبي وحريق بالمدرسة وحريق في ديار العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن مصر إلى يمن ومن طهران إلى تطوان. نشيد أصبح له طعم النشيج... شيء من هذا القبيل أو الفتيل.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.