د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف
«الستر» و»التستر» مصطلحان مشتقان من الفعل «ستر»، الأولى وهي الستر مرغوب ومحمود، ولكن الثانية «التستر» في غالبه مذموم وغير محمود. فالستر يكون لهدف سام والتستر يكون لهدف غير سام. والتستر في لغة القانون يعني إتاحة الفرصة لمن يقدم على مخالفة أو جريمة
قانونية بتوفير الحماية والغطاء له. ومن التستر أيضاً أن يتجاوز من هو مخول بحق أو سلطة قانونية ما بهذا الحق لشخص آخر عادي أو اعتباري ليمارس هذا الحق تحت اسمه مقابل المال بحيث يوفر له الغطاء اللازم ويمثله نيابة عنه أمام السلطة المانحة لهذا الحق. وفي العقود يأخذ التستر شكل بناء عقد ثانوي على العقد الأصلي بحيث يمرر موقّع العقد الأصلي التزامات تنفيذ العقد الأصلي على متعاقد ثانوي حسب ترتيب معين بينهما.
وقد منحت الدولة فيما سبق من عقود لأهداف تنموية حق التعاقد مع الشركات والخبرات الأجنبية لأصحاب الشركات والمؤسسات المحلية عندما لا تتوفر هذه الخبرات في السوق المحلية من أجل جلب الخبرات والتقنيات الأجنبية وتوطينها تحت إشراف دقيق من جهات مختصة محلية. غير أن الوفرة المادية وغياب المحاسبة والرقابة الدقيقة انحرف بهذه المفهوم لممارسات ربحية بحتة تستند على قدرة ونفوذ المقاول المحلي على تأمين العقود الحكومية وشبة الحكومية للشريك الأجنبي الذي بدل أن يوطّن الخبرات الأجنبية أصبح شيئاً فشيئا يصدر الخبرات المحلية. ودخلت الشركات الأجنبية لحاجة أو غير حاجة للسوق المحلية تحت غطاء محلي بعد أن وجدت بعض المؤسسات المحلية في ذلك سبيل للربح سهل دونما مسئولية أو جهد يذكر، وانحصر دور بعض المؤسسات المحلية في الجانب الإداري والبيروقراطي من تأمين هذه العقود وحماية وجود المقاول الأجنبي. وما لبثت هذه الممارسات حتى انتشرت بين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتتحول إلى ممارسات شائعة هدفها الربح السريع دونما أية حسابات لمصالح الوطن العليا، وتطورت لإنشاء مؤسسات وسجلات بهدف أساسي هو الحصول على الفيز وتصاريح العمل وبيعها للوافدين، فظهرت تسمية «التستر» كمصطلح لوصف هذه الممارسات.
واستشعرت الجهات الرسمية خطر هذه الممارسات بعد ظهور انعكاساتها الخطيرة على أمور عدة لعل من أهمها: تفاقم نسبة البطالة بين الشباب السعودي الذي ذهبت وظائفه لأيدي عاملة أجنبية وجد نفسه غير قادر على منافستها؛ استنزاف الاقتصاد الوطني بزيادة تحويلات العمالة للخارج بالعملة الصعبة بشكل كبير جداً قارب المئة ونصف مليار؛ مضاعفة الضغط على الخدمات المحلية من ماء وكهرباء ومواصلات وغيرها؛ آثار اجتماعية أخرى لاستيفاد أعداد كبيرة من العمالة غير المتعلمة و غير المدربة؛ وظهور كثير من الممارسات الاجتماعية الغريبة على المجتمع والمخلة بالأمن.
ومع تزاحم بعض المواطنين للحصول على سجلات تجارية وتراخيص مؤسسات لهدف الاتجار بالفيز ودخول شرائح مرموقة لهذا المجال لأنهم وجدوا في ذلك تجارة مربحة ومريحة، بدأ أفراد المجتمع يتأقلمون مع وجودها ولم يعد ينظر لها كعمل غير وطني مما ترتب عليه إغراق البلاد بالعمالة الوافدة لحاجة وغير حاجة نتيجة لزيادة المعروض من الفيز، و أصبحت العمالة الوافدة تتحكم في هذه التجارة وبسوق المقاولات والتجارة الجزئية على مستوى الشركات الصغيرة وربما المتوسطة. أما شركات المقاولات الأجنبية الكبيرة التي تعمل تحت مسميات سعودية، نتيجة لطفرة المشاريع الحكومية فتوسعت في منح عقود ثانوية، عقود من الباطن حسب التسمية الشعبية لها، أي ان الوافد ذاته أصبح جزءاً من تجارة التستر. ولذا تدخلت الجهات المعنية لتنظيم السوق على مستوى العمالة فقط وليس الهيكلة، بإلزام المؤسسات بنسبة من العمالة السعودية فيما سمى بنظام النطاقات مع مكافئة من يوظف عمالة سعودية بمنحة تأشيرات إضافية لعمالة أجنبية!! بينما بقيت جذور المشكلة الحقيقة بلا حلول جذرية.
ويميل بعض المراقبين لاقتصاد المجتمعات النامية، وبعض مراقبي تطور ما يسمى بخطط التنمية في دول العالم الثالث إلى مراجعة شاملة لهذا المفهوم العام الواسع لأن التنمية في كثير من مجتمعات العالم الثالث انحرفت عن أهدافها الحقيقية ولم تحقق النتائج المرجوة منها، وأتت معها بنمو هيكلي مشوهة للاقتصاد وكثير من الأمراض الاجتماعية لعل من أهمها الإثراء السريع من مشاريع التنمية وانتشار ظواهر العمولات والرشاوى وغيرها. وتحولت تنمية الدول النامية إلى مجال دراسة شبه متخصص وظهر مع ذلك مصطلحات «كثقافة العمل»، «توازن التنمية»، «التنمية والاتكالية»، «التنمية والمجتمع» الخ.. جميعها لوصف الممارسات الشائعة التي تعود عليها مواطني هذه الدول. فنظرة المواطنين العامة للتنمية في بلد ما وتحديد دور المواطن فيها تعكس شكل الثقافة التنموية في هذا المجتمع. ومن الأفكار الشائعة في مجتمعنا عن دورات التنمية وخططها الخمسية أنها فترات «طفرات» يجب انتهازها والإثراء منها بصرف النظر عن أية اعتبارات وطنية أخرى. و من هنا انتشرت لدينا ما يمكن تسميتها «بثقافة التستر»، وهي ثقافة لها طقوس وممارسات أصبحت شائعة ومن الصعب القضاء عليها. فالسجلات الوهمية، وعدم الالتزام بالمهنة المخصصة في التأشيرة، واستحواذ الأجانب على قطاعات كبيرة من الاقتصاد الجزئي على مستوى المقاولات والتجارة، وتشكيلهم ما يشبه الكارتيلات المحصنة التي يصعب اختراقها هي مجموعة عوامل جعلت البطالة تصمد أمام جميع المحاولة السطحية لإصلاح سوق التجارة والعمل.
ولمعالجة هذه الظاهرة المتفشية يوجد أمام الجهات المختصة بعض الحلول الجذرية التي بدونها قد نزيد من تجذّر ثقافة التستر، فكلما صدرت تنظيمات شكلية لتنظيم سوق العمل أوجدت العمالة الوافدة تنظيمات و أعراف صارمة مقابلة للالتفاف علي هذه التنظيمات، وهي تلتزم بهذه الأعراف بشكل قد يكون أدق من التزام بعض المواطنين بأنظمة العمل الجديدة؟ ولذا فالحلول الجزيئية لا يمكن أن تقضي على هذه الثقافة المتجذرة، وتبدو الحلول الجذرية هي الأمل الوحيد المتاح للقضاء عليها. فالعامل الأجنبي الذي لا يجد في المجتمع مجالاً للتلاعب سيرحل بخياره هو لمجتمع آخر يمكنه ممارسة التلاعب فيه. فيمكن أولاً، إخضاع الجميع لسلطة النظام
وتطبيق الشفافية المطلقة في إعلان من يوجد لديهم عدد كبير من المكفولين. ثانياً، سعودة قطاع المقاولات بالكامل بحيث تصبح شركات المقاولات سعودية قلباً وقالباً وليس قالباً فقط. ثالثاً، قصر ممارسة بعض المهن التي يتوفر فيها مؤهلين سعوديين على السعوديين فقط وخاصة في مجالات الإدارة، والتجارة الجزئية وإغلاق أي متجر يقف فيه أجنبي. منع جميع مظاهر الإتجار بالفيز أو ما يسمى بنقل الكفالة؛ رابعاً، تدريب وتثقيف الشباب السعودي على ممارسة بعض المهن في مجال المقاولات والتجارة وخاصة تلك التي تدر دخلاً جيداً. وأخير تحديد نسبة التحويلات للعمالة بحد أدنى وحد أعلى لكل عامل حسب مهنته، ومراقبة طرق تهريب العملة وتحويل الأموال للخارج؛ سادساً، إنشاء خطوط ساخنة للتبليغ عن العمالة السائبة والمتسترين أسوة بما فعلته وزارة التجارة مؤخراً للتبليغ عن ممارسات الغش التجاري، والإسراع بالتفاعل مع هذه البلاغات.
ولابد من أن أختم بأن بروز «ظاهرة التستر» ومنافسة الأجنبي للسعودي على لقمة عيشة في بلده ربما يكون أخطر الظواهر الاجتماعية في مجتمعنا، وربما يكون السبب الرئيس للبطالة في مجتمعنا ليس على مستوى العمالة اليدوية فقط ولكن على مستوى بعض الإدارات المتوسطة والعليا أيضًا في القطاعين العام والخاص، بحيث أصبحنا من أكبر مراكز التدريب للوافدين في العالم بينما نعاني من بطالة أثبتت بعض الإحصائيات الرسمية التي ظهرت مؤخراً أنها في تزايد وليست في تراجع بعد تطبيق بعض الحلول الجديدة. فالتستر بلغة لا تستر فيها يعني: التآمر مع وافد على احتكار وظيفة لمواطن. والله من وراء القصد.