د. خالد محمد الصغِّير
يلعب الأستاذ الجامعي دوراًً حيويا فهو بمثابة العمود الفقري في هيكل التعليم الجامعي، وهو بلا منازع الشريان الدافق الذي يمد الجامعات بأسباب الحياة، أو أن يقودها إلى الذبول والموت البطيء حين يمارس أفعالاً هي خارج النسق الأكاديمي المنتظر من رائد التنوير، والتثقيف الاجتماعي. وسأحاول
من خلال هذه الإطلالة المقتضبة على واقع بعض الأساتذة الجامعيين السعوديين تحديداً أن أُسلّط الضوء على شريحة مختارة من الممارسات الأكاديمية الخاطئة التي يمارسها على أرض الواقع الجامعي بعض من الأساتذة الجامعيين، ومنها: النظرة الفوقية والسلطوية التي يمارسها بعض من الأساتذة، و انعدام القدر الكافي من الإخلاص والأمانة، وممارسة فعل النظرة الأحادية.
يمارسُ بعض -مع بالغ الأسف- من الأساتذة الجامعيين كما هائلا مما يمكن وصفه بقدر عال من الفوقية والسلطوية عند التعامل مع أبنائهم الطلاب، وبناتهم الطالبات وتقرير ذلك ليس من باب التجني، وتزييف الحقائق، ونسج الخيال وإنما هي الحقيقة الثابتة السائدة في أروقة جامعاتنا وماعدا ذلك فهو القليل والشاذ، بل إن الممثلين للتيار المخالف سبّاحة عكس التيار، أو مغردون خارج السرب. ويمكن للمرء الوقوف على ذلك بنفسه من خلال الحديث والتواصل مع الطلبة الجامعيين والطالبات الجامعيات، وهذا الأمر، أو الحالة بلغت -بلغة أهل الحديث -أفقاً عالياً من التواتر لدرجة أن الأستاذ، أو الأستاذة التي يتعامل بمقتضى أخلاقيات مهنة الأستاذ الجامعي على أصولها أصبح يُصنف، أو يُطلق عليه، أو عليها بأنه ليس من «إيّاهم» كما يقول الطلاب والطالبات الجامعيين.
أجدني عاجزاً عن تفسير ظاهرة طغيان الجانب التسلطي، وسمة التعالي والغطرسة لبعض من الأستاذة الجامعيين، ودوماً أجدني -في محاولة لتلمس أسباب هذا السلوك المستشري- أتساءل: هل هي لحظات مزاجية تطغى على الأستاذ لتغطية ضعفه العلمي، أو هل مصدرها شعور الأستاذ بأن الطلبة حالة من الجهل الميئوس منها، أو أنهم مجموعة من المستهترين الذين يشعر بأنه يضيع وقته، ويهدر جهده، ويعطي من علمه لمن لا يستحق، أو أنهم حالة مستعصية من الفشل التي لا يمكن علاجها، وأنهم عديمو المسؤولية، وهم في الإجمال لا يمكن أن يقوموا بدورهم بصفتهم طلبة جامعيين إلاّ في ظل استخدامه «للعين الحمراء» كما نقول في أدبياتنا الشعبية.
ألا يدرك هؤلاء الأساتذة الأثر السلبي من جراء هذا السلوك غير الإيجابي على بناء شخصية أبنائنا الطلاب حين نقدم للمجتمع شخصيات ينازعها شعور طاغ بعدم الثقة بالنفس، واحترام الذات، وعدم الأهمية، والتي -لا شك- سينقلونها معهم في كل موقف من مواقفهم المعيشية والعملية المستقبلية.
ولم يتوقف بعض الأساتذة الجامعيين عند فوقيتهم المتعالية على أبنائهم الطلاب والطالبات، وإنما قرنوا معها ممارسة أكاديمية خاطئة أخرى تتمثل بعدم أدائهم لواجبهم المهني على أتم وجه، وذلك يمكن ملاحظته ورصده من خلال الكثير من الممارسات التي يقوم بها بعض الأساتذة من ضعف في الإعداد للمحاضرات، وعدم بذل جهد في إعداد المادة العلمية نفسها، والغياب المتكرر من دون مسوغ واضح وشرعي، أو عدم الحضور ألبتة، وعدم الالتزام بالساعات المكتبية. ومضافاً إلى ذلك محاولة الأساتذة قطع أي طريق نحو التواصل بينه وبين طلابه داخل وخارج قاعة المحاضرات، ومحاولة بعض منهم استغلال مواقعهم وسلطتهم الأكاديمية للإضرار بطلابه أو طالبتها لأسباب خارجة عن الأطر والمعايير الأكاديمية التي تحدد العلاقة بين الأستاذ والطالب الجامعي، وإمضاء وقت المحاضرة في قرع طبول ذاتية عن الأنا وإنجازاتها على حساب إعطاء قدركاف من المعلومات العلمية التي يحتاجها الطلاب، واستغلال وتوجيه جهود الطلاب لما يخدم بحوثه ودراساته.
ولست بحاجة إلى إعمال الذهن لتفسير هذا السلوك والممارسة الأكاديمية الخاطئة لأن ذلك مرده إلى غياب تام للرقيب الذاتي من قبل الأساتذة الجامعيين. فلو أن هذا الرقيب متوقد وضاء في ضمائرهم لما قاموا بمثل تلك الأعمال المخجلة، والسبب الآخر يعود إلى الحجج التي نسمعها دوما ممن دأبوا على القيام بتلك النوعية من الممارسات بحجة أن مشاغلنا والتزاماتنا كثيرة ، رواتبنا قليلة لا تسد الرمق، ولذا سنعطي بمقدار ما نُعطى من مال زهيد لا يستحق معه أن نبذل الجُهد في تجهز المادة العلمية، والتحضير لها، ومتابعة الطلاب، والتأكد من فهمهم للمادة العلمية، وغيرها من الأمور ذات العلاقة.
وليت هؤلاء الأساتذة يدركون أنهم بقيامهم بمثل هذه الممارسات غير المهنية يقدمون نموذجاً ممسوخاً لكيف ينبغي أن يتصرف من أؤتمن على ثروة وطنية غالية. وليتهم يدركون أن من يقومون على تعليمه اليوم سيستلم راية بناء الوطن في الغد القريب وستكون ولاشك تلك الممارسات حاضرة في أذهانهم ووجدانهم شئنا أم أبينا، لأن النخب والقدوة العليا في المجتمع رسخت فيهم ذلك النوع من الممارسات المهنية الخاطئة، وخيانة الأمانة العملية، إن ساغ لي تسميتها بذلك.
والممارسة الأكاديمية الخاطئة الأخرى متمثلة في تقديس الرأي الواحد، والحجر أو تكبيل أفواه الآراء المخالفة التي ربما يدلي بها الطلاب. فبعض أساتذتنا -بحكم عصمتهم التي أو جدوها لأنفسهم- يقدمون المعرفة لطلابهم في صور جاهزة قطعية غير قابلة للمناقشة والتكذيب، تلفها هالة من التقديس والعصمة الواهية، ولا تتيح لهم الفرصة كي يناقشوا مضامينها ومراميها، أو طرح علامات الاستفهام حول أطروحاتها، أو حتى إثارة الأسئلة حولها.
والسبب الذي أدى إلى ممارسة هذا السلوك الأكاديمي من قبل شريحة من أساتذة الجامعات يعود إلى أن نظامنا التعليمي، وتكويننا الأكاديمي يذكي ويمجد الامتثالية والصمت، ويفضل تحجيم هامش الحرية الأكاديمية والطلاقة الفكرية، ويمجد الإجابة الصحيحة، ويقمع بشدة الرأي المباين.
وليت هؤلاء الأساتذة يدركون الأثر السلبي المترتب على هذه الممارسة الأكاديمية التي تناقض العرف الأكاديمي الذي يقدس طرح الرأي والرأي الآخر، أو على الأقل إعطاء مساحة للتعبير عن الرأي المطروح بكل تجرد وأمانة. إن عدم احتضان بعض من أساتذتنا لطلابهم، وإعطائهم الفرصة للتعبير بحرية عن آرائهم، وأفكارهم ومشاعرهم تجاه ما يقدم لهم من علم ومعرفة يؤدي لقمع طاقة الإبداع فيهم بل ويضطرها إلى الضمور لأنها لا تتولد حين يكون الفكر مساقاً باتجاه القبول والتسليم بالرأي الواحد المغلف بهالة من القداسة والتمجيد، وهذا التصرف أيضا يقود إلى منزلق خطير آخر ينطوي على سلب وإلغاء شخصية الطالب، ويدفعه مضطراً إلى مجاراة رأي أستاذه وإن كان على خطأ ظاهر للعيان خشية أن يُوصم بالتمرد والعصيان الفكري.
إن على أساتذة جامعاتنا الذين انزلقوا بممارسة مثل هذه السلوكيات أن يتذكروا أن تأشيرة الدخول إلى قبة الفلك الأكاديمي مرهونة بالرقي الأخلاقي العالي، والسمو الروحي، وتقديس القيم والأخلاقيات الأكاديمية النبيلة، وأنه لا يُخلّد محفوراً في ذاكرة الأجيال إلا ذلك النوع من الشخصيات الأكاديمية التي تنبض بالعلم، والخلق ، والإخلاص، وفوق ذلك كله تلك التي تحترم أخلاقيات المهنة الأكاديمية بكل أطيافها ومشاربها.