د. خالد محمد الصغِّير
الأقسام العلمية بالجامعة مكانة كبرى إذ إنها نواة وأساس العمل الأكاديمي بالجامعات، وبمثابة حجر الزاوية الأساسي، والوحدة الأهم في بنية النظام الأكاديمي، وقلبه النابض فمتى ما أضحى هذا القلب صحيحاً انعكس ذلك على الكلية بشكل خاص، والجامعة بشكل عام،
ولكنه متى ما اعتراه الوهن، وتكالبت عليه الظنون تقاعس عن القيام بدوره الريادي هذا.
ومن هنا فالأقسام العلمية في الجامعات تضطلع بمهام كبرى ترتكز في أساسها في المقام الأول على تهيئة بيئة ومناخ يقدم من خلاله تعليم نوعي لأبناء المجتمع، ولكن هذه المهام اختطفها عمل روتيني قصر عمل الأقسام العلمية في جامعاتنا في حدود إدارة للقسم، والتوقيع على المعاملات، والرد على مكاتبات ترد من هذه الجهة وتلك، وتوزيع الجدول الدراسي. وهذا ما جعل الأقسام العلمية في جامعاتنا اليوم تتأرجح بين مطرقة الروتين وسندان التطوير، بل إن الشق الأول راجح وغدا هو المهم مسدداً بذلك ضربة قاضية أصابت الشق الثاني -التطوير- في مقتل. وبذلك طغت مهمة تسيير الأمور الخدمية والإدارية الروتينية على تحقيق عمل متميز ينشد التطوير والتحديث في مجالي العملية التعليمية، والبيئة البحثية، ومجالات أخرى لا تقل أهمية.
وإذا كان إلى وقت قريب يمكن القبول بالانزواء تحت مظلة مطرقة الروتين فإنه اليوم يعد تغريداً خارج السرب. اليوم حلت مفردات جديدة على واقع العمل الأكاديمي تتطلب تعايشاً وحراكاً يتناسب ويتناغم مع متطلباتها فهناك الاعتماد الأكاديمي بشقيها الوطني والعالمي، والمقارنة المعيارية (Benchmarking)، واقتصاد المعرفة، ومجتمع المعرفة، وإنتاج المعرفة، وتلبية احتياجات سوق العمل، والتوأمة والشراكة والتحالف مع أقسام عالمية مماثلة، ومعايير الجودة التعليمية، والمشاريع البحثية المتميزة، وخدمة المجتمع، والشراكة المجتمعية، وغيرها من العناوين الكبرى التي أضحت اليوم مظن عمل الأقسام العلمية في مؤسسات التعليم العالي.
ومن هنا يبدو أن الوقت حان لتنفض الأقسام العلمية في الجامعات عن ردائها غبار التقوقع في بوتقة الروتين الخانقة التي ارتدت بها خطوات للوراء، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم في ظل ممارسات تُحيّد كثيراً من السعي حثيثاً نحو مرمى التحديث والتطوير. ولعلنا هنا نتوقف برهة لنلقي نظرة على بعض من تلك العقبات، أو الممارسات التي غلبت الرغبة فقط في التحليق في فضاء الروتين قبل الشروع في استعراض مجالات ومحاور التطوير التي ينبغي أن تكون هاجس ومدار عمل الأقسام العلمية في الجامعات.
ارتأت جامعاتنا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة الانقلاب على نظام الانتخاب عند تعيين رؤساء الأقسام العلمية، والعمل بنظام التعيين من قبل إدارات الجامعات، ومن هنا يمكن تصنيف رؤساء الأقسام العلمية حالياً برؤساء أقسام جامعية وليسوا برؤساء أقسام أكاديمية؛ لأنهم يمثلون الوجه الإداري للجامعات والتي اختارتهم، أو وافقت على ترشيحهم لاعتبارات ليست المهنية والمقدرة العلمية في مقدمتها مما يجعلهم يعملون في ظل أجواء من البيروقراطية، والتوجه السياسي، ومحاولة إرضاء إدارة الجامعة على حساب مصلحة القسم العلمي، وعلى حساب الاتكاء على دراسات علمية مقننة تُسيّر مسار وخط العمل الأكاديمي داخل الأقسام العلمية، وتوجّه اتخاذ وصنع القرار فيها.
وغياب، أو تغييب نظام الانتخاب قاد أيضاً إلى انكفاء، أو لنقل إبعاد المتميزين من أعضاء هيئة التدريس الذين لديهم من القدرات والإمكانات العلمية، والشخصية، والإدارية التي يمكن أن تستثمر في تحقيق تطلعات تقود القسم العلمي إلى مراتب علمية عليا. والممارسة المعاشة تلك تخالف على الأقل في جزء من واقعها ما نصت عليه المادة الرابعة والأربعون الصادرة برقم (60) وتاريخ 2-6- 1414هـ من نظام مجلس التعليم العالي والجامعات والتي أشارت إلى أنه يعين رئيس القسم من أعضاء هيئة التدريس السعوديين المتميزين بالكفاءات العلمية والإدارية، ويكون التعيين لمدة سنتين قابلة للتجديد. ورئيس القسم المعين هو المسؤول عن تسيير الأمور العلمية والإدارية والمالية فيه، ويجب أن يقدم للعميد تقريراً عن أعمال القسم في نهاية كل سنة دراسية.
والعقبة الأخرى التالية تتمثل في أن الكثير ممن يتولون رئاسة الأقسام العلمية يفتقرون إلى الخبرة الإدارية الكافية التي تمكنهم من إدارة الأقسام العلمية بكل كفاءة واقتدار. وهذا النقص الإداري لم يتأتَ من خلل في التأهيل العلمي لأولئك الذين يُعّينون في تلك المناصب؛ لأنهم في المقام الأول أكاديميون وتم تدريبهم وإعدادهم ليمارسوا أدواراً تربوية وبحثية. وزاد من عمق حجم هذه الإشكالية أن الجامعات لم تقم بدورها في مساعدة من تسند لهم رئاسة الأقسام لكي يكتسبوا القدرات والمهارات الإدارية اللازمة. والسبب في ذلك الإحجام ربما يعود إلى قناعة مؤداها أن ذلك يمكن تحققه من خلال الممارسة، ولكن تلك الخبرة الإدارية تتطلب ما لا يقل -كما يقول اختصاصيو علم الإدارة- عن عشرة آلاف ساعة من الممارسة الإدارية تستغرق ثماني سنوات من العمل الإداري على اعتبار أن من يريد اكتساب الخبرة الإدارية اللازمة بحاجة إلى إمضاء (1250) ساعة عمل في السنة، بمعدل لا يقل عن (26) ساعة عمل أسبوعياً على مدى الـ 48 أسبوعاً السنوية. وذلك لا يمكن تحققه لأن النظام ينص على السماح لرئيس القسم تولي رئاسته على ألا يتجاوز ذلك دورتين متتاليتين يصل إجمالي مدتها أربع سنوات. ومن هنا فالجامعات بحاجة إلى تأهيل كوادرها الأكاديمية وتمكينهم من حضور دورات وورش عمل متخصصة من أجل إكسابهم مهارات إدارية وقيادية.
والأمر لا يتوقف فقط عند شخص رئيس القسم، وإنما نجد أن من جعل الأقسام يتوقف مدار العمل فيها حول أمور ثانوية يعود إلى حقيقة أن العمل في معظم أقسامنا العلمية يفتقر إلى روح العمل الجماعي، وغلبة الفردية والتقوقع حول الذات. وكأن البيئة التي تعمل في ظلها الأقسام العلمية أوحت لمنسوبي تلك الأقسام بأن المعوّل عليه الاستقلالية الفردية، وأن العمل التعاوني أو الجماعي دليل على فقر فاضح في الإنتاج الفكري المستقل، أو عدم القدرة على الإضافة فيه وحيداً.. وهي بذلك عززت، أو ساهمت في قدر ضئيل من التوظيف أو الاستثمار في النشاطات التي تقتضي عملاً جماعياً يسهم في الدفع بمسيرة الأقسام العلمية قدماً. وهذه الثقافة خلقت في منسوبي الأقسام العلمية أعضاء هيئة التدريس قدراً كبيراً من التشرذم والانعزال، وعدم الاحتفاء بالمنجزات الفردية التي تتحقق لزملائهم الآخرين، وخلقت فيهم حالة هي أقرب إلى اللامبالاة والسلبية تجاه كل ما يمس القسم العلمي الذي ينتمون له، وعدم الرغبة في إبداء أي قدر من الحماسة لمشاركة بناءة تسهم في رفعة قسمهم العلمي.. وذلك كله أدى إلى خلق ما يمكن تسميته بـ(الزمالة الجوفاء) حيث نجد قناعاً خادعاً من الكياسة يغطي ضرباً عميقاً من عدم الرغبة في التعاون بالإضافة إلى خوف غير مبرر في أن يؤدي المساهمة في العمل على تطوير القسم في تبديد الوقت والطاقة التي يجب أن تصرف على المشاريع البحثية الشخصية.
ومما ساهم في تعزيز الواقع الراهن داخل الأقسام العلمية عدة أمور منها أن الأقسام العلمية في الجامعات لا يُرصد لها ميزانية مستقلة تقوم بالصرف منها على أنشطتها، وخططها، كما أنها في الوقت نفسه تُعطى صلاحيات محدودة، وأنها متى ما قامت بطرح أفكار ومقترحات لتطوير برامجها وخططها تواجه بسيل عارم من الاعتراضات، والعقبات، والتحديات.
كما أن الأقسام تفتقر إلى وجود أمناء متفرغين مؤهلين بتأهيل متخصص يمكنهم من تسيير العمل الإداري في الأقسام بشكل سلس، وبقليل من الأخطاء المهنية. ويضاف إلى ذلك أيضاً أن عملية صنع القرار داخل الأقسام العلمية تخضع إلى حد كبير للاجتهاد الشخصي، وربما الميول الذاتية أكثر من الركون إلى المهنية الاحترافية، والاتكاء على اللوائح والأنظمة المعتمدة، وتقديم المصلحة العليا للقسم، ومحاولة إشراك أعضاء هيئة التدريس المنتسبين للقسم في صناعة القرار المزمع اتخاذه.. وهذا أدى بدوره إلى التقليل من فرصة المشاركة في بناء الأقسام العلمية، وتعميق روح الانتماء لها، والحرص على جودة مخرجاتها، ومنح الثقة في المنتسبين لها، وجعلهم يتلمسون سبل التحسين والتطوير الدائم لأقسامهم العلمية.
وهذه العوامل مجتمعة أدت في نهاية المطاف إلى جعل الأقسام العلمية عاجزة عن القيام بدور بارز في تطوير الحقل المعرفي والمهني، والمساهمة في بناء خبراتها الأكاديمية ورقيهم، وتحقيق مستوى ريادي متميز في الحقل الأكاديمي الذي ينتمي إليه القسم العلمي.
وبعد استعراض بعض من العقبات التي جعلت الأقسام العلمية في الجامعات تتحرك فقط في نطاق تسيير العمل الإداري المعتاد على حساب مجالات أخرى أهم سوف ستناول في القسم الثاني من المقالة مسارات الحراك التطويري المنشود الذي يجب أن تسعى له الأقسام العلمية والمتمثلة في محاور الخطط والبرامج الدراسية، وإستراتيجيات التعلم والتعليم، والجودة التعليمية والاعتماد الأكاديمي، والبيئة البحثية، وخدمة المجتمع.